فتح علمي هائل تحقق بنجاح زراعة كلية الخنزير المعدلة جينيًا دون رفض جسم المريض للعضو المزروع.
في منطقتنا، أثار جدلًا دينيًا مال للتحريم. قبل أن يفتي الأزهر – فيما يشبه التراجع أمام انتقادات اللا معقولية – أن زراعة كلية الخنزير لا تزال حرامًا، مع استثناء “الضرورة”!
كلمة “ضرورة” هنا غير واضحة؛ فحاجة المريض لزراعة العضو ضرورة بحد ذاتها. ففسرها الأزهر بعدم توافر عضو “طاهر” بديل.
زراعة كلية خنزير لأول مرة | فتح طبي ينقذ ملايين المرضى من جحيم “جلسات الغسيل” | س/ج في دقائق
“عضو طاهر” في بيان الأزهر كاشفة لتاريخ طويل من تحريم الخنزير. يعود في جذوره الأبعد إلى اليهودية.
فلماذا تشددت اليهودية في تحريم أكل الخنزير أصلًا؟
ولماذا تراجع التحريم في المسيحية ثم عاد في الإسلام؟
سنحاول تقديم إجابات من التاريخ والأنثروبولوجيا، في غياب الأدلة المنطقية من داخل التراث الديني.
أقدم الإشارات إلى الخنزير في الأديان القديمة تعود للأسطورة المصرية الأشهر “إيزيس وأوزوريس“، حين دخل الإله حورس في صراع طويل مع الإله ست، الذي استباح جسده وعرشه.
في إحدى معاركهما، تجسد ست “خنزيرًا بريًا أسودًا” تسبب في إصابة حورس وكاد يقتله.
وعلى هذا الأساس، ظهر تقليد في مصر القديمة – خاصةً في العصور المتأخرة – ينبذ الخنزير كتجسيد للإله المغتصب.
لكن كره المصريين للخنزير كان رمزيًا، ولم يرتبط بتشريع ديني يحرم أكله، بل بمنع راعي قطعانها من دخول المعبد.
كذلك، كانت بعض الطقوس المصرية تقوم أساسًا على ذبح الخنزير كقربان للقمر، تجسيد عين الإله حورس.
نجد نفس الحالة في أساطير منطقة الهلال الخصيب، خاصةً كنعان وسوريا القديمة؛ حين يقتل خنزيرًا بريًا الإله أدونيس.
الأضحية | كبش إبراهيم: هل ضحى اليهود بالكبش لإهانة آمون تحت حكم الفرس؟ | مصطفى ماهر
لو دققنا في الحالة، لن نجد فيها تفسيرًا منطقيًا للتحريم اليهودي، لأسباب:
أولًا: كره الخنزير في مصر والهلال الخصيب كان رمزيًا دون تطبيقات تشريعية. وكشف البحث الأثري هناك عن انتشار تربية الخنازير واستهلاكها كطعام.
ثانيًا: جوهر التشريع اليهودي قام على التمييز والاختلاف مع العادات الوثنية. فلو كان الخنزير مكروهًا في البيئة الوثنية؛ فالأكثر منطقية أن تتقبله اليهودية، أو تراه عاديًا على الأقل.
وأخيرًا: فالتشريع اليهودي لا يقوم فقط على كره رمزي للخنزير، بل تحريم لأكل لحمه أو تربيته.
لذلك، ورغم شيوع ذلك التفسير عن أصل تحريم الخنزير.. لكنه يفتقر لأساس منطقي.
في كتابه الأشهر “caws, pigs, wars: The riddles of culture” 1974، يقدم عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي مارفن هاريس طرحًا مميزًا عن أصول تشريع تحريم أكل الخنزير في اليهودية؛ اعتمادًا على نظريته في “المادية الثقافية”، التي تفسر الممارسات الثقافية في المجتمعات الإنسانية المختلفة – ومنها الطعام – بالعودة إلى البيئة الطبيعية التي عاشت فيها الجماعة وطريقة تفاعلها معها.
يقف مارفن عند السبب الذي تقدمه اليهودية – يكرره التراث الإسلامي – كعلة تحريم أكل الخنزير ولمسه: “الخنزير حيوان قذر” والتي تتكرر في سفري اللاويين وتثنية الاشتراع.
يفسر رجال الدين الآيات أن الخنزير شره تجاه الطعام – يتمرغ في الوحل وفي فضلاته وبوله – يأكل فضلاته نفسها. وعلى ذلك الأساس لا يفترض أن يختلط به المؤمن أو يأكله.
يتوقف مارفن عند الحجة، ويقابلها بمقارنة بسيطة مع حيوان يأكل فضلاته لكنه ليس محرمًا: الأرنب.
ثم يسرد قائمة طويلة لممارسات يمكن وصفها بالقذارة من حيوانات مباحة كالأغنام والماعز والأبقار.
والأدهى، أن الحنزير عندما يربى في حظائر نظيفة يصبح داجنًا منزليًا شديدة الحساسية!
خروج اليهود من مصر | لماذا يرفض أغلب المؤرخين القصة الدينية الأشهر؟ | مصطفى ماهر
يفك مارفن لغز تحريم الخنزير بأنه آخر حيوان أليف يناسب المناطق القاحلة كصحاري النقب وبادية الشام، الموطن الأصلي للقبائل اليهودية، وصحراء الجزيرة العربية حيث نشأ الإسلام.
الخنزير مرتبط ببيئة الغابات والوديان والأنهار. هناك ينتظم نظامه الغذائي وسلوكه. غذاؤه الرئيسي يعتمد على الثمار، خاصة الفواكه والجوز، بالإضافة لأنواع الفطر المختلفة.
لكنه إن تربى في بيئة شديد الحرارة، يتغير سلوكه تمامًا لسبب فسيولوجي بحت، إذ لا يملك “غددًا عرقية”. وليعيد توازن حرارة جسمه، يلقي بنفسه في الوحل. يفضل الوحل النظيف. فإن لم يتوفر – كما حال البيئة الصحراوية، يتمرع في فضلاته.
على العكس، تمتلك الماشية الأخرى شعرًا طويلًا يناسب الظروف الصحراوية القاحلة، فلا تنتهج سلوك الخنزير.
كذلك، الخنزير – مقارنة بالماشية الآخرى – ليست من الحيوانات المُجترة. لا يملك جهازًا هضميًا يسمح باستهلاك العشب لزيادة وزنه. يأكله فقط إذا كان جائعًا جدًا، لكنه لا يعتمد عليه كمصدر دائم للغذاء.
لذلك، اقتصاديًا، تصبح تربية الخنازير عبئًا على الراعي – يهوديًا أو عربيًا – لأنها لا تعيش على أكل العشب مقارنةً بالأغنام والأبقار مثلًا، ومن هنا يتضح الشق الثاني من سبب التحريم.
وبنفس الآلية، نفهم لماذا تخلت المسيحية عن تحريم الخنزير. فالبيئة التي ازدهرت فيها المسيحية في السواحل الكنعانية أو أوروبا مليئة بالغابات، حيث يمكن تربية الخنزير بالسماح له بالحركة في الغابة أو ضفاف النهر طوال العام.
في منتصف القرن 19، اكتُشف أن سبب داء الشَعرية (Trichinosis) هو أكل لحم الخنزير غير مكتمل الطهو.
التقط رجال الدين الخيط كإثبات أكيد للإعجاز العلمي في تحريم الخنزير.
لكن ما يهدم تلك الفكرة، ويكشف غياب الأمانة العلمية بقصد أو جهل، أن نفس الأمر ينطبق على عدد كبير من الحيوانات التي يستهلكها اليهود والمسلمون معًا.
مثلًا، لحم العجل غير المطبوخ جيدًا كمصدر للطفيليات، لا سيما الديدان الشريطية التي يمكن أن تنمو حتى 16 قدمًا داخل الأمعاء، مسببة فقرًا شديدًا في الدم وضعفًا في المناعة.
كما أن الأغنام والأبقار ناقلة لداء “البروسيلا” وهي عدوى بكتيرية، بالإضافة طبعًا لمرض الجمرة الخبيثة الذي ينتقل من الأغنام والأبقار، وليس عن الخنزير!
1- Cows, Pigs, Wars, and Witches: The Riddles of Culture – Marvin Harris
2-مارفن هاريس: يشرح ما لا يمكن تفسيره
3- موسوعة تاريخ الاديان- فراح سواح
4- أدولف أرمان – ديانة مصر القديمة نشأتها وتطورها ونهايتها في 4 آلاف سنة