فتاة البوركيني | في الزحف المقدس.. نساء حول البيسين | عمرو عبدالرازق

فتاة البوركيني | في الزحف المقدس.. نساء حول البيسين | عمرو عبدالرازق

29 Jun 2021
عمرو عبد الرازق
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

في نوفمبر 2002، نشر مأمون فندي مقالًا بجريدة الأهرام، بعنوان “في عمران المسجد والشارع واللغة” دوّن به ما لاحظه بشأن بعض التغير المجتمعي حينها، ومنها ما يتعلق بعلاقة الشارع بالمسجد “المقدس” وانتشار ظاهرة افتراش المصلين للشارع، وشيوع التفسير بأن منبع ذلك هو زحف المسجد على الشارع أو زحف المقدس على الدنيوي، بعد تكدسه بالمصلين وفيضانه بهم،

وهو تفسير عمرانى في أصله، وجد مجالًا لإسقاطه على شتى المؤسسات كزحف المسجد على الصحافة والإعلام والرياضة والطب، فتأسلمت المجالات المختلفة كما شاع بالعقود الماضية.

مقال مأمون فندي الزحف المقدس

لكن مقال مأمون فندي حاول تقديم تفسير آخر فيزيائي الطابع، منبعه نظرية فيض الممتلئ على الخاوي كما في نظرية فيض الماء بالأواني المستطرقة، مما يجعل الشارع – الأكبر حجمًا واتساعًا وجماهيرية – هو الذي يزحف على المسجد “المقدس” فيطبعه بطباع الشارع الأقل وقارًا والأكثر غوغائية، ولم يتمدد المسجد لينقي الشارع من رواسبه، بل زحف الشارع فتلوث المسجد.

وانطلقت ظواهر خطباء التلوث السمعي وإلقاء السباب، كعبد الحميد كشك، ولم تتوقف حتى الآن.

الملاحظة الثانية كانت زحف المنزل بدوره على الشارع، في ما لاحظه من انتشار ظاهرة نزول المواطنين من بيوتهم بأحياء عديدة متباينة المستوى الاجتماعي، بلباس البيت، لقضاء بعض حاجاتهم القريبة، وهو ما كان مشهدًا منبوذًا من قبل، وهو ما سماه بزحف حجرة النوم على الشارع حتى محطة المترو أو الأتوبيس!

قد تبدو الملاحظات القديمة نافعة عند مناقشة قضية كـ “فتاة البوركيني” المثارة حاليًا. وبطلتها فتاة تشكو من منع نزولها حمام سباحة له قواعد مرتبطة بأزياء الاستحمام، وهو ما ترفضه.

بين الفستان والبوركيني | الحجاب الطوطمي على مذهب قناة اقرأ | هاني عمارة

سحق الكود الاجتماعي في جيل ما بعد الصحوة

في الملاحظتين، تبدو ظاهرة غياب الكود الاجتماعي واضحة، بالإضافة لظاهرة “افعل ما تشاء وقتما تشاء أينما تشاء دون خجل، فلا شيء يعيب”.

وهو ما ترتب عليه ظهور قواعدة جديدة كـ “التبجح قد يأتيك بحق ليس لك” أو أن التفاوض سيأتي بكسب حتمًا، حتى لو لم تكن طرفًا أصيلًا بما يُتفاوض حوله!

الفتاة في العشرينات من عمرها، أي أنها ابنة خالصة لمرحلة الصحوة الإسلامية، لم تر غير نتائجها في التأسيس الاجتماعي والأخلاقي للأفراد. وليس لديها بديل تعتمد عليه في بناء شخصيتها.. حتى فكرة الوطن، فهو فندق بديل للزيارة والترفيه، كما بدا من حديث والدتها هبة قطب، حينما قالت: “كيف أطلب منها أن تحب بلدها وهي تتعرض للتنمر والعنصرية!”

في هذه السن وتنتظر أن يتم توجيهها لحب بلدها أو كراهيته، كطفل تحت التأسيس يحبو!

فموقف يحببك بوطنك وموقف آخر يدفعك لنبذه!

من التحرش إلى قضايا ازدراء الأديان .. التطرف لا يفنى ولا يستحدث من عدم | خالد البري

إعادة توزيع الأدوار

لذا فأشد ما يعنيني في الفيديو المسجل للفتاة تبكي فيه، وإن كنت أظنه اصطناعًا أو لفتًا للأنظار في قضية تبدو كقضية عالم أول، هو أنه مليء بالمغالطات التي تصل لحد الافتراء والكذب..

فناهيك عن فكرة مخالفة قواعد مكان ما ثم اتهام المكان بالعنصرية، بل وشيوع الاتهام على لسانها ليشعر المتلقي وكأن وطنًا بأكمله أغلب سيداته وفتياته محجبات، يطاردهن بالملاحقة والاضطهاد.. فأيضًا تجاهل الميل المجتمعي للانتصار لملمح ديني مرتبط بالحجاب، والترويج لصاحباته بالفضل والصلاح على حساب غير المحجبات، ثم تأتي الفتاة لتوحي باضطهاد ما يطال المحجبات، فنحن هنا بصدد لغو كريه!

لكن عودة إلى المرحلة التي ولدت بها الفتاة، بشوارع المحروسة ومنابرها ومدارسها، تجد أن العنصرية والملاحقة والتضييق، لاحقت جميعها غير المحجبة، وبعثوا لها ألفاظًا من الماضي السحيق كالمتبرجة والسافرة “لاحظ إيحاء منطوق اللفظ على الأسماع” يطاردونها بها في إطار حرب نفسية ممتدة، أنفق عليها الملايين في طباعة البانرات والملصقات والهدايا والكتيبات وشرائط الكاسيت ومحلات الحجاب!

بل ولاحقها الضرب بالمطاوي والملاحقة بالمواد الكاوية ومياه النار بالتوازي وقص الشعر وتمزيق الملابس كما بقي إلى سنوات قريبة! فكان الترغيب والترهيب الدعوي في أوضح وأقبح صوره!

هكذا كما هو الحال اليوم “اضرب ولاقي” توزيع للأدوار، هذا في خطبة دينية يشحن النفوس وآخر ينفذ جريمة اعتداء بناء على فتوى، وثالث يتبرأ من الجرم ويغسل يده من الدماء.. شهادة حسين يعقوب مثال عملي!

ثم تأتي الفتاة لتلقي بتعبيرات العنصرية والاضطهاد باستخفاف في غير محله، متجاهلة كل اضطهاد وإجرام قام به من شكلوا روافد فكرها، وأين كان اتجاهه!

الفتاة لشدة تهافت منطقها، وشعور دفين بالذنب في نفسها، تتحدث وكأنها تتبرأ من إثم تلقنته بدروس الوعظ، وبلغة نصفها إنجليزية، تنتقد رغبة مجهولين في شيوع اللغات الأجنبية بمصر!

حبيبة طارق | فتاة الفستان وفتيات البوركيني في خمس نقاط | خالد البري

الزحف بالخاص نحو العام

الفتاة لم تفعل أكثر من أنها زحفت هي الأخرى بذوقها وتصوراتها نحو العام، فأصرت على فرض قانونها الخاص على مكان له قواعده المستقرة، وإذا لم ينفذ لها ما طلبت، خرجت لتلقي بالاتهامات الباطلة، تخلط فيها القواعد بالحريات، والقانون بالهوى!

منذ بضع سنوات انتشرت صور لأفراد على شواطئ البحر الأحمر السياحية، يرتدون ملابسهم الداخلية، وتصدى البعض للدفاع عنهم، وبنفس المنطق، كان يجب السماح لهم بفرض ملابسهم، حتى نتجنب تهمة الاضطهاد، ولسوء حظهم لم يجدوا منابر إعلامية لاستضافتهم!

ملابس داخلية شرم الشيخ

محاولة خلق التوازن بين معاناة محجبة وغيرها باطلة بالأساس، فغير المحجبة لم تأت لفرض هيئتها عبر الضغط والترويع والتأثيم والتهديد ومتى تتحجبين يا أختاه؟! وماذا تقولين لربك غدًا؟ والحجاب قبل الحساب وأكثر أهل النار النساء.. إلى آخر الملاحقات التي تتجاهلها فتاة البوركيني بسذاجة المدللات وسطحية حياة المخمليات البعيدة عن الجدية!

الواضح بغير شك أن العنصرية والإرهاب اللفظي والجسدي والمعنوي، هي من أوجدت ونشرت الحجاب داخل المجتمع، ومورست الضغوط والرفض والاحتقار ضد غير المحجبات، حتى يشيع الحجاب داخل المجتمع.. فكيف يكون ما تدعيه صحيحًا؟!

وسقطت بعض الأماكن تدريجيًا من لائحة اشتراط عدم الحجاب، نظرًا لطبيعة المكان، كمذيعات التليفزيون ومضيفات الطيران، فتوالت القضايا لتفتح المجال للمحجبات بالعمل بهذه الأماكن أيضًا، وأفلتت أماكن قليلة، منها بعض الشواطئ والفنادق، تشترط على زوارها الحفاظ على ملمح سياحي معين.. خاصة وأن هذه الأماكن هي أماكن مؤثمة بكتابات ووعظ أساطين التيار الديني أصحاب قضية الحجاب المخلصين!

لكن كيف لا نفسد الأماكن وطبيعتها، وهذا دورنا بالأساس!

فبين الحين والآخر، تظهر واحدة من هؤلاء الذين ساروا خلف دعوات وخطب “قرن في بيوتكن” لتنتقل ببيتها وحجرتها إلى الفندق والشاطئ والتليفزيون، لتفرض أفكارها وذوقها الخاص عنوة، وتمارس الزحف المقدس على ملامح الحياة، لتخفي بقايا الجمال عمدا!


رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك