السلطة من أسفل .. الزوجة الثانية في مواجهة الإسلام السياسي | خالد البري | رواية صحفية في دقائق

السلطة من أسفل .. الزوجة الثانية في مواجهة الإسلام السياسي | خالد البري | رواية صحفية في دقائق

18 Nov 2020
خالد البري رئيس تحرير دقائق نت
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

في العام الرابع بعد الألفية الجديدة أصدرت أولى رواياتي، نيجاتيف. كان مقررًا لها أن تصدر مع معرض القاهرة الدولي للكتاب، لكنها تأخرت. لم يتبق أمامي على العودة إلى لندن إلا ليلة واحدة. وصار كل أملي أن أرى أي نسخ من الرواية قبل المغادرة.

ذهبت إلى المطبعة مع الناشر، قابلنا رئيس الوردية، أو ربما صاحب المطبعة. الجو الحار داخل المطبعة برر الفانلة الحمالات التي يرتديها في يناير. المللُ والصوت الرتيب المتكرر طوال النهار ربما برر الشيشة المحشوة حشيشًا التي يدخنها.

قال لي إن عاملًا في المطبعة عثر في روايتي على كلمة خارجة، فرفض تحمل إثم طباعتها وعطل الطباعة. ثم اصطحبني إليه.

كان عامل المطبعة الواعي اليقظ الضمير ملتحيًا، ومتحمسًا في اعتراضه على وجود لفظة خارجة في رواية من مئتي صفحة لكنها تدخل البيوت، “ترضى يا بيه أختك تقرا كلام زي دا؟!”. سألني السؤال الذهبي. وحين قلت له إن هذا قرارها ولا دخل لي به. قال لي ما معناه إن كل أسرة ولها طريقة تربيتها.

لكن لا قيمة للحياة دون أمل، حتى في أضيق ساعات الضيق يمكن لورقة بسيطة – من فئة العشرين جنيها – أن تفتح لك بابا للفرج. وقد كان، بناء على نصيحة صديق رافقني. أراحت العشرون جنيهًا ضمير الرجل، وحققت لي حلمي البسيط، ورأت الرواية النور في ليلة السفر. فتمكنت من ترك بعض النسخ مع صديق مع قائمة بأسماء من أريد أن أهديهم الرواية.

هذه الدَخلة المصرية تضيف إلى الكاراكتر نكهته المميزة لنا.

ستجد في مجتمعات أخرى متشددين دينيًا يحاولون أن يفرضوا سلطتهم على من حولهم. وستجد مرتشين يسهلون الأمور لمن يدفع. أما في مصر فيستطيع عامل مطبعة خاصة، في أدنى درجات السلطة، أن يخلط بين الاثنين بمهارة تفاوضية: يخلق من “تقواه” المعلنة سلطة على غيره، وعائقًا مشروعًا عن القيام بعمله، ثم يساومك على تقواه نفسها، مقابل عشرين جنيهًا فقط.

حين تشتري قطعة أرض على أطراف الحضر قد يدعي بعض “العربان” أن الأرض تحت سلطتهم، ومن حقهم الدفاع عنها. ثم يساومونك على “تخليهم” عن تلك السلطة وذلك الحق مقابل مبلغ مالي.

أما رئيس الوردية، الذي يدخن حشيشًا في الشيشة، فموقعه من الإعراب ليس مفهومًا. يتواطأ مع العامل بإحالة الأمر إليه. فلا تملك إلا أن تسأل نفسك السؤال الطبيعى: هل تخلى عن سلطته أم تقاسمها معه، كل واحد عشرة جنيهات؟

أعتقد أنه يعتبر هذه الدفعة النقدية تعويضًا مبررًا للعامل عن ضعف راتبه. وفي حين يستطيع موظف الحكومة أن يلجأ إلى القواعد واللوائح لكي يصعب عليك المهمة، فتحتاج تليينًا. فإن عامل المطبعة يلجأ إلى قواعد ولوائح موازية، هي بند أساسي من بنود سلطة موازية. قواعد الدين التي تخدم غرضه.

في 2006 أوفدت من بي بي سي العربية لتغطية قضية الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية. ولا داعي لإعادة مفردات القصة، فقد رويت بحذافيرها في مواضع أخرى كانت فرنسا، ومجلة شارلي إيبدو، آخرها.

ما حدث في الدنمارك كان على نطاق أوسع، والمظاهرات كانت أعنف. وزراء خارجية 19 دولة مسلمة أصدروا بيانًا ينددون أيضًا بالرسوم الكاريكاتورية ويطالبون رئيس وزراء الدولة بالاعتذار عنها.

الأسبوع الذي قضيته في كوبنهاجن، والذي فصلته في مواضع أخرى، يوجز استراتيجية الإسلامجية في أوروبا.

لن أعيد عليكم إلا تفصيلة واحدة.

حين التقيت بالأستاذ المرحوم أبو لبن، وهو فلسطيني الأصل يعيش في الدنمارك ويقود حملة الاعتراض، كان عندي سؤالان جمعتهما من لقاءاتي بمسلمين منتخبين في دوائر البلديات.

السؤال الأول: هل تعتقد أن رئيس وزراء الدنمارك يملك – وإن أراد – أن يمنع الدنماركيين من انتقاد النبي محمد، وهو الذي لا يملك أن يمنعهم من تناول أي مقدس بالتشكيك والانتقاد والسخرية؟ هل ينتخبه الدنماركيون مرة أخرى إن فعل؟

والسؤال الثاني: لماذا تتحدث باسم المسلمين وأنت لست منتخبًا لتمثيلهم؟

الأستاذ أبو لبن رد على السؤالين بإجابة واحدة: دعنا نر من تفويضه، دائرته الانتخابية (Constituency)، أكبر من الآخر.

الأستاذ أبو لبن لم يكن أكثر من صورة أخرى من صاحب المطبعة. صورة عالمية، أوسع نفوذًا. والثمن الذي تطلبه أكبر. هو أيضًا يريد أن يفرض “تقواه” الدينية على غيره. ويريد أن يلزم أوروبا بأسرها بأن تلتزم بما يريد، وأن تغير قوانينها لكي تلائم أسرة الأستاذ أبو لبن وتقتدي بمجتمعه. وهو في مسعاه ذلك يختار قضايا تمس مشاعر عامة المسلمين لكنه يوجهها لإثبات تفويضه هو وتفويض جماعته.

الأستاذ أبو لبن يريد من رئيس وزراء الدنمارك وأشباهه أن يفهموا من يملك الإشعال والتهدئة. من يملك تشغيل الماكينات أو تعطيلها. وأن يتعامل معه مباشرة.

هم – وليس الدولة الرسمية – الممثل الحقيقي للمجتمعات المسلمة. بطاقة لا يمكن تجاوزها.

في ذلك العام، 2006، كنت خارجًا للتو من صدمة تفجيرات مترو الإنفاق في لندن. اكتشفت بعد زيارة كوبنهاجن ما لم أفهمه طوال السنوات السابقة التي عشتها في لندن.

هل أعلنت أوروبا الحرب على ثقافة المستضعف/المتسلط؟ ماذا يفعل المسلم العادي؟ | خالد البري

أشياء كثيرة صدمتني حين انتقلت إلى المعيشة في لندن. لكن لا الجو المختلف، ولا النظام في الشوارع، ولا الطباع المهذبة للبشر في الحيز العام، لا شيء من هذا صدمني بقدر الصدمة حين “رأيت نفسي” في التليفزيون.

أبو حمزة المصري كان الضيف “المسلم” الأكثر حضورًا على شاشات التليفزيون، بصورة لو رسمها روائي أو فنان كاريكاتير لاتهم بالمبالغة، وبـ “تشويه الصورة الذهنية” عن المسلمين:

* يد مقطوعة استبدل بها مخلبًا حديديًا أحيا ذكرى روايات القراصنة المصورة التي قرأتها في طفولتي.

* عين عوراء لا يحجبها بغطاء أسود مثلما الحال مع كابتن قرصان جاك سبارو.

* وتلك فقط إضافة إلى المظهر الأساسي من اللحية الكثة غير المشذبة والجلباب.

* مصحوبًا بمؤثرات صوتية من الكلام الخطابي الحاد الراعد الزابد.

كثير من المسلمين كانوا ممتعضين من المقام المسدى إلى أبو حمزة. آراء أبو حمزة لم تكن تختلف عن آراء هاني السباعي ولا أيمن الظواهري وأسامة بن لادن. لا تختلف عن آراء وجدي غنيم ويوسف القرضاوي. ولا عن آراء كثير من شيوخ المساجد الذين تصل أصواتهم إلى كل مكان عبر شبكة الميكروفونات المهيمنة على الجو العام. لكن المنفر في أبو حمزة كان التجسيد البصري لهذه الآراء. التجسيد الذي تستطيع أي عين رؤيته.

أبو حمزة لم يكن فقط ضيفًا دائمًا على بي بي سي لكي يدلي بدلوه في ما يخص “القضايا الإسلامية” السياسية. بل كان أيضا إماما لمسجد فنزبري بارك. كيف لرجل أن يصير إماما دون أن يكون له ما يكفي من النفوذ لصعوده إلى ذلك المقام.

وصفت ذلك بصدمتي الأكبر في لندن لأنها مثلت لي ألمًا نرجسيًا، من الصنف الذي أطلق عليه سيجموند فرويد “نرجسية الفروق الضئيلة”. كون أبو حمزة مصريًا، ومسلمًا، يضعني وإياه في نفس الفئة. الصورة الذهنية النمطية المتكونة لدى المشاهد البريطاني ستصنفنا في خانة واحدة.

الفارق بيننا أنني إنسان عادي، لا يعرفني أحد، ولا أتحدث باسم أحد. فرد. أما أبو حمزة فرمز، معبر عن قوة منظمة، عنوان مجموعة لا تنتظر انتخابات لكي تفرض نفسها ممثلة للمسلمين. قوة اكتسبت نفوذها بالمتعاطفين أكثر مما اكتسبته بالأتباع. المتعاطفون الذين ينتفضون فقط في المشهد الأخير من جريمة تتابعت وقائعها بالتفصيل أمام أعينهم. يعترضون ظاهريًا مع كثير الاستدراك حين تسال دماء. لكنهم يدعمون بقوة أفكارًا وسلوكًا ونظرة إلى العالم تتشابه مع الإرهاب الصريح.

وفي الحالة البريطانية تفصيلة إضافية مهمة.

ملاحقة أبو حمزة بدأت حين وقعت هجمات الحادي عشر من سبتمبر. اكتشفوا وقتها فقط أن مسجد فينسبري بارك “مصنع الانتحاريين”، واكتشفوا حتى أن أبو حمزة كان متزوجًا من امرأة بريطانية أثناء زواجها من شخص آخر، أي أن الأوراق التي حصل بموجبها على جواز السفر البريطاني تشوبها الشكوك. الزواج استمر خمس سنوات من عام 1979. والاكتشاف تم بعد عشرين سنة من الطلاق.

لكن الأهم ما كشفته التحقيقات الإعلامية، كما في كتاب مصنع الانتحاريين للصحفيين المخضرمين دانيال ماكجروري وشون أونيل. كشفا وجود اتفاق جنتلمان بين المخابرات البريطانية والمتطرفين على التغاضي عن أنشطتهم الموجهة إلى غير بريطانيا، في مقابل ألا تراق دماء على أرض بريطانيا.

المساومة بالإرهاب والمساومة بإشعال المسلمين، يوازيها على الناحية الأخرى المساومة بالهيكل التنظيمي القادر على تجميع أصوات المسلمين، وتقديمها خدمة للحزب السياسي الراغب. مساومة شعارها: “أتريد المسلمين علقمًا أم شهدًا؟!”. نحن نملك المفاتيح في الحالتين.

والمقابل تركهم مطلقي اليد في المجتمعات المسلمة، ينشرون أفكارهم، ويمارسون ضغوطًا اجتماعية. ويبنون دولة داخل الدولة، تحت مسمى الخصوصية الثقافية، والتعددية الثقافية. الفرد المسلم صار موكلًا إلى “الجماعة الثقافية المسلمة” ترسم حياته، حتى لو كان يريد حياة أخرى.

أخطر ما رآه المتطرفون في خطاب ماكرون أنه إعلان رفض لما كان قائمًا من قبل. فرنسا الآن لا تحاسب المتطرفين على “الجريمة” النهائية، بل تستهدف دائرة أوسع كثيرًا هي دائرة الانفصاليين. دائرة الذين يخضعون لسطوة السلطة السفلية وقوانينها. لقد ذهب خطاب ماكرون إلى أصل المشكلة. إلى بضاعة التجارة.  لقد اخترق الحدود المتخيلة لدولة الإسلامجية ورعاياها من المتعاطفين.

اكتشف ماكرون الخيط الرابط بين ما تعلمه الإسلامجية في مجتمعاتهم الأصلية، وما يفعلونه في فرنسا.

وهو اكتشاف يمكن أن نتلمس خيطه من مشاهدة فيلم الزوجة الثانية، الذي يربط المشكلة العالمية بجذرها المحلي.

في فيلم الزوجة الثانية لن تجد إشارة إلى السلطة الحاكمة، لكنك تشاهد حال رعاياها من خلال العمدة وشيخ الخفر. حتى مسؤول الشرطة لا يتعامل مع المواطنين مباشرة. كان هذا جزءًا من البنية التقليدية للمجتمع، الطريقة التقليدية لتوزيع السلطة فيه.

في حالة كتلك المواطن العادي ليس على علاقة مباشرة بالسلطة، حدود علاقته تنتهي عند شيخ الخفر وحضرة العمدة. يحب السلطة من خلالهما ويبغضها من خلالهما. فإن غضب غضبًا لا يمكن احتواؤه، أمكن التضحية بهذه السلطة العازلة، واستبدال غيرها بها.

وأنا هنا أوصف الوضع، لا أختبر الإيجابي فيه والسلبي.

خطوة خطوة تقلصت القوى “التقليدية” ليحل محلها قوى تمثل الدولة الجديدة بعد 1952. شبيبة تربوا في كنف الثورة وآمنوا بشعاراتها ومشروعها. مدرسون في المدارس، موظفون في الأحياء والمحليات، هذا فضلا عن المتفرغين للسياسة.

 ثم ربط التليفزيون المواطن البعيد بصورة السلطة وغذاه برموز لها. جعله يشعر أنه على علاقة مباشرة معها. أن رئيس الجمهورية هذا هو الكبير المسؤول عن كل ما يحدث لي ولك، مهما كان. أفاد ذلك سلطة الزعيم عبد الناصر، لكنه أرسى الدولة على نموذج مضر للمستقبل.

في 1971، كانت هناك عركة على السطح، بين الرئيس الجديد، أنور السادات، والحرس القديم في نخبة الحكم. كلنا نعرف هذه الأزمة السياسية، والمحاكمات التي تلتها. سمعنا اسم “ثورة التصحيح” من قبل، أو مررنا على كوبري 15 مايو بين الزمالك والعجوزة. هذا الجسر يحمل تاريخ تلك الحركة.

لكن هل نتخيل الحرب الموازية داخل مواسير السلطة؟ هذه هي الحرب الأخطر والممتدة الأثر. لقد كان صراعًا على السلطة السفلية، اضطر معه السادات إلى خياره الوحيد، القاتل.

كان لدى عبد الناصر الوقت لكي يزاحم القوى التقليدية بقوى موالية له. أما السادات فوجد نفسه بعد سبعة أشهر  من توليه الحكم مضطرًا إلى مواجهة رفاقه ومن تحزب معهم من الظهير الشعبي الذي بناه ناصر على شعارات الثورة.

بتعبير آخر لقد فُرِّغت البنى التقليدية للسلطة السفلية في 1952 وحل محلها بالتدريج بنى السلطة الثورية. والآن، 1971، فرغت مرة أخرى من بنى السلطة الثورية دون أن يحل محلها شيء. هذا التفريغ الفيزيائي لو حدث في وعاء لشهدناه بأعيننا ينهار ويطبق على نفسه.

ما يحدث مع المجتمع لا نراه بهذا الوضوح، لكنه يحدث.

وهذا قبل حرب أكتوبر. تحتاج الجبهة الداخلية بإلحاح، لا يكفي معه انتظار الفعل الطبيعي للزمن.

لم تترك السياسة أمام السادات إلا اللجوء إلى الإسلامجية في محاولة للحفاظ على توازن المجتمع. أهداهم ملعبًا مفتوحًا، من جوامع القرى، إلى زوايا المدن (التي سهل لهم بناءها) إلى الجامعات حيث أثبتوا قدرتهم على مطاردة الشيوعيين لفظيًا وجسديًا، إلى البيوت، ..

امتدت شبكة صرف السلطة الجديدة. لم تكن سلطة السادات، ولا سلطة الدولة. ولا حتى سلطة محايدة محدودة الطموح. بل سلطة الإسلامجية.

وتجاوزت الرواية تخيل كاتبها وهو يخط السطر الأول فيها.

صار الموضوع شبيهًا بملعب كرة. السلطة فيه تلعب بخطة الجوهري. تتكدس في منطقة جزائها، وتترك الملعب لمن يشاء. لكان هذا جيدًا للغاية لو أنها ضمنت قواعد اللعبة. هذه الوظيفة التشريعية والقانونية والتنفيذية للدولة. لكن هذا لم يكن ممكنًا، ولم تعد قادرة.

من التجربة المصرية أتقن الإسلامجية اللعبة. لم تكن جديدة، هي خطة لعب قديمة. الجديد فيها أنها تستهدف مجتمعًا في طور الانتقال من طور الأفكار التقليدية إلى طور المجتمع الحديث. هذه فترة هشة وخطيرة في حياة الأمم. فترة صراع بين القديم والجديد، بين أنصار القديم والجديد. فترة أفرزت مثيلاتها النازية والشيوعية والفاشية. وحربين عالميتين. وثورة فرنسية دموية.

لكن الأخطر من كل هذا استخدام سلاح الدين لعرقلة التطور. لماذا؟

لأن التطور ها هنا ينطوي على ركائز أساسية، منها المساواة بين المواطنين، بين المسلم والمسيحي والبوذي والبهائي، وبين الرجل والمرأة. وبالتالي فهي فترة تشريع يسمح بتحقيق تلك الأغراض، على خلاف التشريع الديني. حتى في التشريع الجنائي، ستحتاج إلى تجريم متعلق بهذا العالم، مختلف في مفهومه عن الذنب الديني المتعلق بالعلاقة بين شخص وربه.

ولأن القديم في بلد كمصر مرتبط بشريحة جماهيرية كبيرة للغاية، أميون، محدثو تعلم، ريفيون، هوامش الحضر. تتشارك مع الإسلامجية في كثير من المعارف “الحميدة” التي لا تثير الريبة: الله مالك الكون. الأرض يرثها عباده الصالحون. الرزق آت من الله وليس من البشر. ربانية المصدر. الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان والقانون الوضعي لا يصلح بديلا لها. قداسة المصادر الدينية من النبي إلى الصحابة إلى السلف الصالح كالبخاري والأئمة الأربعة والإجماع بين أهل السنة.

توليفة من التحصينات تجعل ممتلكيها في موقع يحسدهم عليه أي فريق سياسي في العالم. لكنها ليست نهاية المطاف. هؤلاء لا يتمتعون فقط بحصانة لأفكارهم من الانتقاد، بل يتمتعون بتفويض إلهي لكي يستخدوا ما يشاؤون من “الجرائم” ضد خصومهم. إن أرادوا أن يلمسوا الكرة بأيديهم فلهم فتوى. إن أرادوا إخراج لاعب إلى قبره فالرصاص أيضًا مقدس.

مباراة غير عادلة على الإطلاق. السلطة العليا في منطقة الجزاء. السلطة السفلية تسيطر على الملعب دون اعتبار للعب النزيه. والنتيجة واضحة. تشابه نتائج مصر في كأس العالم تسعين. مباريات مملة مزعجة، ثم هدف واحد كفيل بالهزيمة والخروج من البطولة. وتختلف عن كأس العالم تسعين في أن فريق السلطة السفلية ينفرد أولًا بالموجودين في بقية الملعب، فإن تخلص منهم – تحت عين وبصر السلطة العليا الرابضة في منطقة الجزاء – التفت إلى منطقة الجزاء وهاجمها. وهنا فقط تنتفض السلطة العليا.

تقولون لي ولكن الدول الغربية دول حديثة. والمتطرفون هناك مولودون وتربوا فيها، فكيف تستخدم ما حدث في مجتمعات مسلمة لشرح ما حدث هناك؟

وفي كلامكم وجهة نظر معتبرة.

لكن المجتمعات المسلمة في الدول الأوروبية ليست جزءًا من هذه الدولة الحديثة، والمتطرفون وجمهورهم والمتعاطفون معهم – الانفصاليون الإسلاميون كما سمتهم فرنسا – حريصون على بقاء أفكار المجتمع المسلم متأخرة عن أفكار دولة المواطنة العصرية.

وأسلوبهم في ذلك منقول مما فعلوه في البلاد الإسلامية. في أسيوط التي تربيت فيها بدؤوا بنفس الطريقة. إثارة المشاعر وتجييشها تحت شعار الدفاع عن الإسلام. في مدرستي الثانوية ترقبوا فتى مسيحيًا أشيع أنه رسم محلًا لبيع الحلوى في مناسبة المولد النبوي، ثم كتب على يافطة المحل “محلات المدود” – أي المليء بالدود.

بعد أن ضربوه بالجنازير والسلاسل وهو خارج من المدرسة الثانوية، تركوا الناس يتناقشون هل هو مخطئ أم لا. هل يستحق العقاب الذي ناله أم لا. هل محل بيع حلاوة مولد النبي مقدس أم لا. والناس هنا عامة المسلمين.

لكن لا أحد يسأل السؤال السياسي: بأي حق يفرض هؤلاء قانونهم على من حولهم؟ وأين السلطة العلوية مما تفعله السلطة السفلية؟

فضلًا عن أن ما سبق أسئلة إنشائية، الإجابة عليها لن تحدث فرقا كبيرا، لأن الأمر الواقع حدث بالفعل. السلطة السفلية مكنت لنفسها بالفعل.

محلات المدود، ليست أكثر من صيغة محلية محدودة من الفتوى العالمية باستهداف سلمان رشدي، ومن الحرب على الدنمارك، ومن اغتيال محرري شارلي إيبدو.

تحوير آخر فعله الإسلامجية بالانتقال من الحالة المصرية إلى الحالة العالمية.

في مصر استغلوا الثغرة بين الوعود الضخمة التي قطعتها سلطة الكفالة الاشتراكية على نفسها، وبين القدر الذي تستطيع أن تنفذه منها.

يستغلون ذلك في شيئين: إشاعة النقمة وتوجيه الغضب إلى السلطة. ولكن أيضًا القيام بدور الكفيل بديلًا عنها.

جملة بسيطة لكنها في السياسة تعني كثيرًا. فمهما كانت قبضة الدولة الأمنية قوية، حسب خطة منطقة الجزاء، فإن قيام سلطة بديلة بدور المراقب لأفعال المجتمع، الموظف لبواب العمارة والجار والغريب المار في مهام أمنية تنفيذية لضبط السلوك، الفارض ألفاظ تحية الصباح والظهر والمساء، هو في حد ذاته هزيمة أمر واقع للسلطة العليا. ولا تعني سوى أن السلطة السفلية هي التي تتضخم.

في الحالة العالمية استغلوا العكس تمامًا.

استغلوا ثغرات قوانين الرفاه الاجتماعي لكي يمكنوا المهاجرين والمجتمعات المسلمة المنغلقة منها، ويتحصلوا لهم على بيوت وإعانات إعاشة تعفيهم من هم العمل. كانت النتيجة تعميق الفشل عن التطور الاجتماعي في المجتمع المسلم، مقارنة بغيره من المجتمعات. وهذا لصالح تحولهم إلى مصدر الكفالة. بأموال الدولة، ولكن عبر قنواتهم، من خلال شبكة واسعة من المحامين والمتحايلين على النظام.

نظام الكفالة هذا مكن كثيرين من التفرغ، بلا شغلة أو مشغلة، للقيام بـ “واجباته كورثة الله على الأرض”.

 لم يكن هذا بلا ثمن. الثمن أنهم صاروا المرجع، في المسائل المتعلقة بالإعاشة، ولكن أيضا في المسائل المتعلقة بالأحوال الشخصية. و صاروا قادة أمر واقع لجيوب الأقلية المسلمة داخل الدولة.

في كلتا الحالتين نستطيع تلخيص الوضع كالتالي:

١- فرض سلطتهم من خلال إثارة قضايا تلعب على مشاعر عامة المسلمين.

٢- استغلال الثغرة بين الدولة الغربية الحديثة وبين المجتمع التقليدي، تحت شعار الخصوصية الثقافية أو الثوابت.

٣- إعادة توجيه هذا كله لصالح تحويل مطالبهم إلى “مطالب المسلمين”، والمساومة بها على فرض أنفسهم كقادة للمجتمع المسلم.

كيف نتصرف إذن؟ هذا سؤال ضخم للغاية. لكنني سأشير إلى اتجاه قبل أن أفصله في كتابات قادمة.

السلطة من أسفل لها حل واحد: تعديل مفهوم دور الدولة. وتقليصه.

رب سائلة تسأل: كيف، بدلا من أن تطالب الدولة – السلطة العليا – بمزيد من الانتشار تطالبها بالتقليص؟

والإجابة أن التقليص لا يعني الانكماش. التقليص يعني إعادة التوزيع. يعني تحول الدولة إلى حكم وليس فريق.

التقليص مع إعادة التوزيع يعني أن تدرك الدولة الفارق بينها وبين المجتمع. المجتمع هو الجسم الداخلي المضطلع بالوظائف الفسيولوجية للجسم. هو الذي يجب أن ينشغل بمصالحه، بالكسب اليومي، وبمراعاة القانون. أما الدولة فهي ضامن لسلطة القانون، ضامن لحريات المواطنين الشخصية، ضامن لحمايتهم من اعتداء المجرمين بغض النظر عن الشعار الذي تقترف الجريمة باسمه.

قد يغريها لعب دور مصدر الدخل. وترى فيه منافع ارتباط المواطنين بها. لكنها لا تنتبه إلى الوجه الآخر من تلك المعادلة. وهو محاسبتها على التقصير فيه. من أفضل حيل الحياة البسيطة، وقوانينها السهلة الممتنعة، أنها تلزم كل كائن حي بالسعي إلى اكتساب وقود بقائه. هذا الإلزام يشغله، يصفي عقله عن التفكير في ما سواه، ويعلمه تحمل مسؤولية نفسه، ومهارات بقائه.

دولة الكفالة هنا تعارض الحياة ذاتها. على السطح يبدو هذا جيدًا، لكنه في الحقيقة يقتل مناعة المجتمع وتطور مهارات أفراده.

في حالة دول منطقتنا، ولأن التغلغل الإسلامي قوي، فتنشيط مناعة المجتمع تحتاج عنصرين:

١- إضعاف الإسلامجية أمنيا، وتعقب جرائمهم مهما صغرت قانونيا.

٢- أن يزداد المجتمع قوة.

وهنا السؤال كيف يزداد المجتمع قوة؟

الإجابة بسيطة وصعبة، تبدأ من تقديس الملكية الخاصة، فهي جزرة المنافسة، والمنافسة فيتامين التطور. الملكية الخاصة توزع مصادر النفوذ، وبالتالي تعدد مصادر الدفاع عن المصالح. وكلاهما يوسع حس المسؤولية، الحس الذي قضت عليه دول الحداثة الريفية (الاشتراكية)، ويوسع التنوع المهاري.

ليست الدولة مطالبة بتقديم النموذج الصحيح من الدين، مطالبة بحماية حرية تعبير الناس عن معتقداتهم، دون أن يجور معتقد على آخر.

ليست الدولة مطالبة بكفالة المواطنين. لكنها مطالبة بحماية حرية التملك. التملك يحتاج إلى أرباح تموله. والأرباح تحتاج إلى عمالة حقيقية كفوءة.

ليست الدولة مطالبة بإنتاج الفن الصحيح، ولا الثقافة الصحيحة. الدولة مطالبة برفع أيديها عنهم. بالكف عن التحول إلى آلة قانونية في يد الإسلامجية: تؤدب هذا وتقوم ذاك. الاستثناء الوحيد هو مخالفة القانون العصري المناسب للقرن الذي نختار أن نعيش فيه.

بهذا تغير الدولة المعادلة من نقطة بدء واضحة. وفي طريقها تغير فلسفة نظرة المواطن إلى العالم.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك