بدأت السينما باللونين الأبيض والأسود؛ لأن تقنيات التصوير والتحميض وطباعة النسخ لم تسمح بما هو أكثر وقتها. ولعقود طويلة احتفظت السينما بهذا الطابع حتى بعد تطور تقنيات الألوان، لأسباب اقتصادية بالأساس، وفنية أيضًا لجيل من صناع السينما لم يستسيغ ظهور الألوان، واعتبرها بدعة وبهرجة غير مطلوبة!
الأوسكار واكبت هذا التطور، وبمنهجها الذي يسعى دومًا لإرضاء واستيعاب الجميع، استمرت في تقديم جائزتي تصوير منفصلتين سنويًا (فيلم ألوان – فيلم أبيض وأسود) في الفترة بين (1939-1967) قبل أن تقرر منح جائزة تصوير واحدة سنويًا على ضوء اكتساح الألوان للسينما.
قصة الأوسكار.. من حفل عشاء لوس أنجلوس إلى أهم جوائز السينما عالميًا | الحكاية في دقائق
رغم هذا، ومن فترة لأخرى، يقرر مبدع سينما ما في عصرنا الحديث أن يعود إلى الأبيض والأسود، ليذكرنا بسحر هذه التركيبة اللونية البسيطة، ويغوينا بصورة منعشة أصبحت نادرة في زمننا الحاضر.
لماذا يلجأ بعضهم إلى الأبيض والأسود في عصر الألوان؟ وما هي أبرز الأفلام التي استفادت من هذا القرار؟ جولتنا هنا للإجابة. وسنعتبر عام 1970 هو بداية نطاقها الزمني، باعتبار السبعينيات أول عقد أصبحت فيه سينما الأبيض والأسود مجرد تاريخ.
حكايات هوليوود المنسية (1): تمرد بيتي دافيز – أوليفيا دي هافيلاند الذي غير مسار هوليوود | أمجد جمال
الترتيب في القائمة لا يعكس ترتيب جودة هذه الأفلام، أو ترتيب عرضها زمنيًا، لكنه ببساطة ترتيبي للتسلسل المنطقي الواجب للحديث عن توظيف الأبيض والأسود وما يضيفه كل فيلم هنا عن هذه الجزئية.
كما شرحنا سابقًا، يرتبط الأبيض والأسود في أذهاننا بالسينما القديمة، لذا تظل واحدة من أهم دوافع استخدامه في العصر الحديث، هي إعادة المتفرج لهذه الأزمنة، بكل ما لازمها من أفلام وحبكات وطباع.
في عيده الـ 20.. كيف غير “المصارع” هوليوود للأبد؟ | حاتم منصور
أحداث هذا الفيلم عن حلاق يحاول ابتزاز زوجة رئيسه وعشيقها. لكن، كعادة أفلام الأخوين كوين، لن تسير خطته على ما يرام.
استخدام الأبيض والأسود هنا منسجم مع فيلم تدور أحداثه في الماضي أولًا، ويلامس أيضًا ثانيًا طباع وأسلوب فيلم نوار (بالفرنسية: Film noir) الخاصة بأفلام الجريمة والغموض فترة الأربعينيات والخمسينيات، التي يوظف فيها التباين بين الأبيض والأسود في كثير من المقاطع.
الحديث عن أسلوب الـ فيلم نوار يجبرنا على الانتقال سريعًا لهذا الفيلم الذي أخرجه روبرت رودريجيز، اقتباسًا من روايات كومكس بنفس الاسم للعبقري فرانك ميلر.
ستان لي وأفنجرز.. رحلة التحديات من الورق إلى السينما |حاتم منصور
تأثر فرانك ميلر في رسوماته بأساليب الـ فيلم نوار المظلمة واضح، لكن ما يجعل رسوماته فريدة أكثر وأكثر، هو أنه يستخدم الأسود أحيانًا كالأصل في الإطار، بينما يرسم خطوطه بالأبيض (عكس المعتاد).
وأحيانًا يستخدم لونًا إضافيًا واحدًا فقط في الرسم بخلاف الأبيض والأسود ليمنح شخصية أو شيء ما حضورًا استثنائيًا طوال السرد، وقدرة على خطف أنظارنا أكثر وأكثر.
صفحتان من كومكس مدينة الخطيئة. لاحظ مساحة الأسود في الصور، وطريقة توظيف اللون الأصفر.
احتفظ رودريجيز بكل ما سبق في فيلمه، وصمم على كتابة اسم فرانك ميلر كشريك في الإخراج رغم عدم مشاركته في تنفيذ الفيلم، باعتباره فعليًا الشخص الذي رسم كل لقطة في الفيلم، لدرجة تجعله (المخرج).
باتمان 2021 وخمس أفلام وألغاز سينمائية مرتقبة من “دي سي كومكس” | حاتم منصور
قد يرى البعض مدينة الخطيئة دخيلًا على قائمتنا هنا لأنه لم يخل من ألوان، لكنه في الحقيقة يمثل تحفة استثنائية، وحدوتة انتقل فيها سحر سينما الأبيض والأسود بصريًا لصناع لكومكس، ثم عاد إلى السينما من جديد وهو يحمل بصمتهم.
صنع رودريجيز جزءا ثانيا عام 2014، لكن لم يتكرر نفس النجاح.
لقطات من الفيلم:
تجربة أخرى استلزمت الأبيض والأسود في هذا الفيلم الكوميدي الذي كتبه وأخرجه عبقري الكوميديا ميل بروكس، كمحاكاة ساخرة لأفلام الرعب الهوليوودية القديمة في الثلاثينيات، عن المسوخ والوحوش من نوعية فرانكنشتاين.
فرانكشتاين كاسم يخص البطل في القصة الأصلية التي كتبتها ماري شيلي بالمناسبة، وليس المسخ الذي سيواجهه، لكن الجمهور والسينما كان لهم رأي آخر دومًا، بخصوص الطرف الذي يستحق الاسم!
هل تحققت أسطورة نحس رفعت إسماعيل في مسلسل ما وراء الطبيعة ؟ | حاتم منصور
بالاضافة إلى الأبيض والأسود يوظف فيلم فرانكنشتاين الصغير الكثير من أساليب الثلاثينيات، من حيث الماكياج والمونتاج والصوت المشوش، وطريقة كتابة البيانات على الشاشة، ليجعل كل ما سبق ضمن أدوات الكوميديا، التي اكتسح بها شباك التذاكر الأمريكي عام 1974.
ما دمنا ذكرنا نسخة فرانكشتاين الساخرة من أفلام الرعب الهوليوودية القديمة، فقد حان الوقت إذن لذكر فيلم فرانكنويني الذي أخرجه تيم بيرتون، باعتباره الابن غير الشرعي للفيلم السابق!
أنجح 10 أفلام رعب في التاريخ |حاتم منصور
يستخدم فرانكنويني الأبيض والأسود أيضًا، ويحاكي أفلام فرانكشتاين القديمة بنفس الطريقة الساخرة، لكنه يضيف طابعًا أكثر غرابة بصريًا، بفضل تنفيذه بطريقة العرائس والستوب موشن القديمة.
بصمة المخرج تيم بيرتون الأهم في سينما الأبيض والأسود كانت في فيلمه إد وود الذي دارت أحداثه عن مخرج ومنتج حقيقي بنفس الاسم توفي عام 1978.
اشتهرت أفلام إد وود برخصها الإنتاجي، وحبكاتها الغريبة التي تدور في فلك الرعب والأساطير، وكوارثها التقنية المُحرجة في التصوير والمونتاج، وحواراتها السطحية، وممثلينها غريبي الأطوار، لدرجة جعلت كثيرين يعتبرونه أفشل مخرج في عصره.
لكل مخرج عرّابه ومريدوه.. خمس”رومانسيات” بين عظماء الإخراج | أمجد جمال
أغلب أفلام إد وود وسنوات نشاطه كانت في عصر الأبيض والأسود. لذا، قرر تيم بيرتون تنفيذ الفيلم بنفس الطريقة، ووجد ضالته في جوني ديب، الذي منح الشخصية غرابة تليق بها.
لم يكتف بيرتون بهذا، بل صاغ الفيلم أيضًا بنفس الطريقة العبثية المليئة بالأخطاء بحيث يصبح أشبه بأفلام إد وود نفسها! لا يوجد أي منطق مفهوم في الإضاءة طوال الفيلم مثلًا، وأخطاء الراكور لا حصر لها، لكن هكذا كانت أفلام إد وود!
أسوأ 10 أدوار في أفلام الأبطال الخارقين | حاتم منصور
التناقض بين تأثير الأبيض والأسود الفخم المعتاد، كطابع بصري يذكرنا عادة بعصر الأفلام الراقية الكلاسيكية، وبين أحداث الفيلم الكوميدية وسخافات البطل في صناعة السينما، أضاف أيضًا للفيلم طابعًا عبثيًا مميزًا، وجعله ينضم لقائمتنا هنا عن جدارة.
حان الوقت للحديث عن مانك ما دمنا ذكرنا إد وود المتعلق بشخصية سينمائية حقيقية، لأن مانك أيضًا يقتبس أحداثه من واقعة حقيقية في أواخر الثلاثينيات، خلف صناعة فيلم المواطن كين Citizen Kane الذي عُرض عام 1941 عندما بدأت خلافات بين مؤلفه هيرمان مانكويز، وأورسون ويلز شريكه في الكتابة ومخرج الفيلم وبطله، على الحقوق الأدبية والمجد بخصوص الفيلم.
Mank | القاضية ممكن لنتفليكس وديفيد فينشر في الأوسكار | حاتم منصور
يطابق مانك سينمائيًا فترة فيلم المواطن كين من حيث الطابع البصري والصوتي. المسألة ليست فقط في تصويره بالأبيض والأسود، لكنها تشمل أيضًا ألاعيب أخرى مثل تسجيل الصوت بمعدات الأنالوج القديمة، وتنفيذ الموسيقى بنفس الآلات الأوركسترالية السائدة آنذاك، وإضافة عيوب وخدوش على الصورة، وكتابة البيانات على الشاشة بنفس الخطوط القديمة، وغيرها من الملامح التي ميزت سينما أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات.
قرار المخرج ديفيد فينشر تنفيذ مانك بالأبيض والأسود وبهذه الدرجة من التقارب أسلوبيًا، خلق حالة مطلوبة من التوأمة الذهنية لدى المتفرج بين الفيلمين، ومنح العديد من الأفكار الدرامية ثقلًا ودرجة اقناع أكبر، ومنها مثلًا جزئية تأثر مانكويز أثناء كتابة المواطن كين، بشخصيات سنتعرف عليها في مانك.
موضوعات متعلقة
نسخة للطباعة
