لم يعد التأثير الذي أحدثته منصة نتفليكس محل شك. هذا على مستوى الدراما والعروض التلفزيونية، لكن على مستوى الأفلام، لم يحُسم الجدل حتى الصيف الماضي.
توابع صدام 2017 الشهير بين مهرجان كان والمنصة، الذي انتهى بمنع عملاق البث من المشاركة بأفلامه في المهرجان السينمائي الأرفع، ما زالت تثير انقسامًا في الرأي بين النقاد والصناع ومحبي السينما.
كانت الحجة الرئيسية للمعسكر المُرحب بنتفليكس هي التوسم في المنصة كحليف جديد للسينما الفنية، وإضافة كبرى ستساعد الشركات في تمويل الأفلام المستقلة التي عادة ما تتصدر المنافسة على الجوائز سنويًا.
المشكلة أن الحجة ظلت حبيسة الإطار النظري، فلم تدعمها نتفليكس عمليًا بإنتاجات سينمائية تستحق الرهان عليها فنيًا. باختصار، ما كانت تحتاجه نتفليكس لدخول مجال الوجاهة والبريستيج السينمائي هو النموذج لا النظرية، لذا كان لا بد أن يكون الرهان أقوى.
يتحقق الرهان الآن مع مخرج بقامة “ألفونسو كوارون“، الذي لم تبتعد معظم أفلامه عن مشهد الجوائز على مدار العشرين سنة الأخيرة، ولم يعجز الباقي منها عن تحقيق ضربات في شباك التذاكر. بالتأكيد سيكون إضافة وجيهة لمكتبة نتفليكس لو قدم فيلمًا بالصورة الأبيض والأسود (تدرج الرمادي)، وبحركة كاميرا غير تقليدية توحي صدقًا أو ادعاءً بأن وراءها مبدع يدري ما يفعله جيدًا.
كوارون أيضًا كان بحاجة لنتفليكس في تلك المرحلة من مسيرته، فهو يعود بعد غياب استمر خمسة أعوام على فيلمه الأخير Gravity. وبعد أن صار من أعمدة الصناعة الثقيلة لهوليوود، يحوّل شغفه جنوبًا إلى وطنه المكسيك، ليقدم فيلمًا محليًا غير ناطق بالإنجليزية، ويتنازل عن الأفكار البراقة و”البياعة” في تجاربه الثلاثة السابقة، فيقرر تقديم فيلم ذاتي عن ذكريات طفولته في حي روما في مكسيكو سيتي.
الفيلم يتناول حقبة تاريخية لا معاصرة، وكلها عناصر غير جاذبة للجهات الإنتاجية التقليدية.
الطريق إلى الأوسكار.. قراءة في ترشيحات الجولدن جلوب
“كليو” بطلة فيلم Roma خادمة شابة في منزل أسرة أرستقراطية مكونة من أب طبيب دائم السفر للمؤتمرات الطبية، وزوجة ربة منزل، وأطفال.
هي شاهدة على الأحداث التي مرت بالأسرة على مدار عام كامل، لكنها أيضًا بطلة في قصتها.
ورغم تصريح كوارون أن فيلمه مبني على ذكريات طفولته، فالأحداث هنا لا تروي بعين أحد الصبية داخل العائلة؛ فهم غائبون عن كثير من مشاهد الفيلم، كما أن حركة الكاميرا لا تقول إن الأحداث تُروى بعين “كليو” رغم أنها العنصر المشترك في كل المشاهد، كذلك لم تكن تُروى بعين الرب العليمة؛ لأن العرض افتقد الحياد، وأهمل بعض جوانب العلاقات الإنسانية واكتفى بعرض النتائج، مثل علاقة الطبيب بزوجته، لكن من وجهة نظر الطبيب.
إذًا، فالأحداث تُروى بعين طرف يعرف هذه العائلة جيدًا، لكنه يعيش خارج الكادر.
باختصار، هي عين أقرب للنسخة المعاصرة من كوارون الإنسان، وهو ينظر للأحداث نظرة رجل ناضج يعيش في الألفية، وكأنه أرسل جزءًا من روحه عبر آلة الزمن لتحوم في منزله القديم، تلتقط تلك الحياة بأسلوب متشظٍ، يقتصر على ما عرفه أو ما فهمه مما حدث، وليس كل ما حدث.
عين الراوي هنا واحدة من الجماليات الكبرى للفيلم؛ لأنها على غير العادة، شريكة في بطولة القصة مع “كليو”.
ذلك العنصر الجمالي ينقلب أحيانًا لعيب عضوي في الفيلم، حين يتمادى كوارون في دور الشريك، ويغريه الحنين للماضي بالانغماس في تفاصيل المكان والزمان الذي نشأ فيه، حتى ولو شرد عن خط سير الدراما، وترك عدسته تتغزل في معالم المنزل والأحياء والشوارع، وتساهل مع زمن اللقطات الباهظ وهي تعرض مناظر وثرثرة قد تعني الكثير لمن عاشها يومًا، لكنها لا تعني لنا شيئًا. مشاهد مثل احتكاك السيارة بالجدران في كل مرات الركن، أو دهس براز الكلب أسفل عجلات السيارة، أو التمعن في رؤية الطيور داخل قفصها.
بالطبع أي نوع من القصص له علاقة وثيقة بذكريات القصاص؛ فهي مخزون معرفته بالحياة، لكن معنى الذكرى ليس مطلقًا أو قائمًا بذاته، بل هو حصري على من شارك في صناعة الذكرى، وكان على علم بأبعادها. وكي تتحول الذكرى إلى حدث روائي، فهي تحتاج لمعلومات وسياق، والفيلم في ثلثيه الأولين كان شديد التحفظ في ذلك.
ولعل التفصيلة الانغماسية الأكثر توفيقًا من كوارون هي لقطة داخل صالة السينما تجمع أفراد الأسرة وهم يشاهدون فيلم (Marooned (1969.
تعرض اللقطة رائدًا يسبح في الفضاء، ومن السهل على المتفرج ربط تلك اللقطة بالفيلم السابق لكوارون Gravity، واعتبارها مرجعية له، وهو سبب في نجاح تلك التفصيلة مع كثير من المتفرجين، فالذكرى داخل سياق معروف.
امتدادًا للنقطة السابقة، تظهر مشكلة متعلقة بتناقض بين المزاج العام للفيلم وبين المادة المصورة؛ فالخادمة تعيش مأساة، والعائلة تمر بتحدٍ صعب، وحتى الدولة تمر بظرف سياسي يبدو كئيبًا، لكن الصورة التي تعرضها عدسة كوارون لم تتناغم مع التراجيديا، بل هي مشتعلة بالجاذبية والإبهار، رؤية الشوارع، المطاعم، السينمات، المنزل الأنيق وسطحه الساحر، احتفالات الكريسماس، صوت الأغاني هنا وهناك، التساقط الشاعري للأمطار بينما يلعب الأولاد ويغنون في بهو المنزل. هنا تصادم بين مشاعر النوستالجيا وبين طبيعة القصة والخطوط الدرامية، ما يطرح التساؤل: هل كوارون يترحم على هذه الفترة أم أنه ناقم عليها؟
يستثمر الفيلم عنصري المفارقة والمقارنة بشكل جيد، سواء بصريًا أو دراميًا. كليو تفقد جنينها، لكنها تهب الحياة للطفلة “صوفي” التي كانت على وشك الغرق، والمقارنة جزء من التعليق الاجتماعي على الفجوة الطبقية التي تناولها الفيلم.
في مشهد صالة السينما الذي جمع بين “كليو” وحبيبها “فيرمينو” وهي تخبره بحملها منه، ينتهي المشهد بهروب فيرمينو وتخليه عن كليو متعللًا بالذهاب إلى دورة المياه، بينما على شاشة السينما نرى النهاية السعيدة للفيلم المعروض (La Grande Vadrouville (1966، وهنا مقارنة بين الواقع المأساوي والنهايات الخيالية السعيدة.
أيضًا، يبدأ Roma وينتهي بطائرة تحلق فوق المنزل. في الافتتاحية تظهر صورة الطائرة مجرد انعكاس فوق مياه التنظيف، وفي الختام تظهر الصورة الحقيقية للطائرة أعلى المباني، والفرق بين الانعكاس والحقيقة هو نفسه الفرق بين معرفتنا السطحية بالأسرة ومعرفتنا الأعمق بها مع نهاية الفيلم.
لكن أحيانًا ما ظهر عنصر المفارقة في شكل مصادفات مبتذلة، مثل أن يشاهد الابن وكليو الأبَ يسير مع عشيقته في الشارع؛ لوجودهما في نفس المكان ونفس التوقيت، إضافة إلى مشهد المواجهة الصامتة الأخيرة بين “كليو” و”فيرمينو” في متجر بيع الأدوات المنزلية، وفي الخلفية اشتباكات بين المتظاهرين والمرتزقة، وهنا يتكرر عامل الصدفة بطابعه المبتذل. والسبب الأول في اعتباره مبتذلًا أنه ينتمي لطبيعة ميلودرامية تتنافر مع الأسلوب الواقعي للفيلم.
التعليق الاجتماعي كان ثريا ومُركبا، جزء منه عن التفاوت الطبقي. ففي الثلث الأول من الفيلم، تستمع “كليو” لأغنية شعبية عن فتاة تتوقع أن يتركها حبيبها لأنها فقيرة.
هذا التفاوت يظهر أيضًا في عدة مشاهد أخرى، منها مشهد احتفالات الكريسماس، حيث التجمع العائلي الفاخر في الطابق الأعلى، مقابل تجمع الخدم الأكثر تقشفًا في الطابق السفلي، وهنا استخدم كوارون الرمزية ببراعة بعرض لقطة تخطو فيها “كليو” على سلم عملاق يصل بين الطابقين أو العالمين.
لكن البُعد الطبقي في الفيلم لا يكتمل دون التأمل في البُعد النسوي.
أفلام كوارون بصفة عامة منشغلة بالمرأة الأم، ليس بالمعنى الحرفي للأمومة، بل بمعنى أكثر تركيبًا يتضمن المجاز أيضًا “Mother Figure”. هذا يظهر في فيلمه And Your Mother Too عن علاقة معقدة لصبيين بسيدة أكبر في العمر تكون سببًا في تغيير نظرتهما للحياة، وفي فيلمه Children of Men يقدم خيالًا ديستوبيًا عن عالم فقدت فيه الإناث الخصوبة والقدرة على الإنجاب، وحتى في فيلمه Gravity يظهر هذا الانشغال باعتبار كوكب الأرض هو الطبيعة الأم للإنسان، فالأم تهب الحياة لطفلها والأرض كذلك بالنسبة للإنسان هي المصدر والوجهة والملجأ.
في Roma يظهر احتفاء وتعاطف كبير مع المرأة المتمثلة في “صوفيا” ربة العائلة، و”كليو” التي تمثل المجاز الأمومي، وما يجمعهما هو الكفاح بعد تخلي الرجال عنهن، وهنا رغم التفاوت الطبقي بين المرأتين، إلا أن الظلم الذكوري لم يميز بينهما.