علاقة الفن بالأخلاق علاقة ملتبسة، كعلاقة صناعة الأثاث، أو الأجهزة الكهربائية، بالأخلاق. الأخلاق المهمة هنا هي إجادة مهارات المهنة، والأمانة في تأدية المهمة.
من هنا ففيلم “أصحاب ولا أعز” أحد أفضل الأفلام التي شاهدناها مؤخرًا. فيلم محدود الإنتاج، مغلق، لكنه قادر على شد انتباه المشاهد طوال عرضه. وقادر على خلق “تويست” غير متوقع، ولكن صادق. وناجح في الجانب العاطفي في ترسيخ انطباع عن كل شخصية من شخصياته، وعلى إثارة المشاعر، ودفعك للتعاطف أو الغضب أو القلق.
أصحاب ولا أعز.. ولا رقابة.. ولا أجندات نتفلكس؟ | حاتم منصور
من أجل كل ما سبق، أصحاب ولا أعز فيلم جيد جدًا فنيًا، في حدود ما أعلم. هناك أمور تقنية يستطيع النقاد الفنيون المتخصصون الحديث عنها أفضل مني.
أفضل رسالة أخلاقية في فيلم “أصحاب ولا أعز” أنه يقول لقطاع كبير من المتفرجين إن أخلاقك ليست أخلاق كل الناس. إن هناك قطاعات من الناس تعيش حياة أخرى. فيها حلوها وفيها منغصاتها. فيها أسئلتها “الأخلاقية” وفيها إجابات تختلف عن إجاباتك.
هل تعتقد أن أخلاقك أفضل؟ من حقك. استمتع بها. عض عليها بالنواجذ. ضع كل بيضك في سلتها. افعل بها ما تريد. ولكن الزم حدود نفسك. ودع الآخرين يعيشوا حياتهم كما يريدون.
“الاغتصاب الزوجي” | كيف استمدت ثقافتنا الدينية أفكارها من أفلام الجنس | خالد البري
هناك فئة ستقول له: لا. هذا حرام. لا جنس خارج الزواج.
هناك فئة ستقول له: دوس يا باشا. بس لو وافقت على علاقة جنسية معك، لا ترتبط بها.
الفئة الثالثة ستقول له: هذا سؤال تحدد إجابته بنفسك. إن شعرت أن العلاقة جادة بما يكفي ومستعدة لنوع من الالتزام فانتقل إلى هذه الخطوة.
المعيار لدى هذه الفئة الثالثة أن العلاقة الجسدية أمر لا بد له من تطور علاقة “جادة”. وأن التفكير المنطقي يملي عليهم هذه الإجابة. ما سبق مرتبط لديهم بفكرة أخرى مقتنعين بها: أن أي علاقة جادة لا بد أن تمر بالجنس قبل أن تتحول إلى عقد قانوني، لأنه عامل أساسي في نجاح العلاقات وفشلها. وأن تأخيره إلى بعد الزواج قد يتسبب في مشكلة “عدم قبول” من الصعب حلها.
العالم كله. إلا أنت وبعض المجتمعات المشابهة. وهي نفسها المجتمعات التي يهرب منها كثيرون إلى المجتمعات الأكثر حرية. والأكثر أخلاقية أيضًا.
الفيلم قدم هذا النموذج. هذا السؤال الأخلاقي. الفارق الوحيد أنه وضع ابنة بدلا من ابن. الأنثى في هذا المعيار الأخلاقي طرف في العلاقة، وليست مفعولًا به. وأن عائلتها لا تعتبر ممارستها لحياتها الطبيعية ذنبا يجب أن تخفيه، بل من الأفضل أن تكون داعمة لها.
مسلسل لعبة نيوتن | مقالي الذي لن أكتبه عن لحمية محمد ممدوح ولحية محمد فراج | خالد البري
فئة ترى أن عليك السعي في تطبيق حكم الشرع بإلقائه من فوق مبنى عال، أو – الأقل حدة – سجنه وعقابه.
فئة سترى أن عليك توبيخه ومقاطعته و”فضحه” وعزله اجتماعيًا حتى يكره نفسه.
وفئة سترى أن هذا أمر لا يخصها. هذه طبيعته وهذا اختياره.
هذا يختلف عبر التاريخ. لكن حاليا، في الدول التي تعارفنا على تسميتها بالمتقدمة هذا أمر شخصي، يخص أطرافه. ليس جريمة في حق أحد. وبعض من أعظم من أنجبتهم البشرية عطاء كانوا مثليين جنسيًا.
ألان تورنج.. عبقري الحرب العالمية الثانية المنسي والمثلي المنتحر
القيمة الأخلاقية هنا هي الحياة. هذه الحياة. أن وظيفتنا فيها هي محاولة إسعاد أنفسنا، وليس تكديرها. هذا لن يتحقق إن انشغلت كل فئة بتكدير متع الفئة الأخرى.
أنت، وأنا، أولهم. هذا جزء من طبيعة المجتمع البشري الواعي. المقصود بالخطأ هو الخروج على العرف الاجتماعي المتفق عليه في نمط معين من العلاقات.
في علاقة الزواج مثلًا، المتفق عليه الالتزام بالتعهد. إن تعهد شخصان لبعضهما البعض بعدم الخيانة، فالخيانة غش، وإخلال بهذا العهد.
إن اكتشفت الخيانة يستطيع طرف أن يستخدم حقه القانوني في الطلاق بلا غرامة. أو ربما يسامح الطرف الآخر إن اتفقا على ذلك. النماذج التي قدمها الفيلم كلها منزعجة من “الخيانة”. الخائن يخشى أن ينكشف، والطرف الآخر لم يسامح عليها.
في عائلتكم المصونة نماذج كثيرة لهذه الأفعال، لكن بوعي مختلف. في عائلتكم المصونة فتيات وشباب يبحثون كأي كائن طبيعي عن الجنس، ويتعرفون على آخرين، و”بيعطّوا” في سيارات أو في أماكن خاصة. وينتهي الموضوع بمأساة، أو جريمة “شرف”، أو إذلال يخلف صدمة نفسية، أو ابتزاز وتهديد بالفضيحة.
السبب، أن المجتمع الذي وصل فيه متوسط سن الزواج في الطبقة المتوسطة إلى الثلاثين لم يخلق منظومة أخلاقية جديدة تتعامل مع هذه الأزمة، مع هذا التكدير للحياة، مع هذا الكبت المرضي فسيولوجيا ونفسيا.
في عائلتكم المصونة خيانات، مستترة، وأخرى انكشفت.
جورج خباز.. صوت الألم والأمل في “مسرح لبنان” | مينا منير
فكرة أن كل الناس تخطئ تعلمنا أن نصير أقل عنفًا في أحكامنا على الآخرين. ألا ندعي، وفي التشدد في الأحكام دائمًا ادعاء بالأفضلية.
الحرب على “أصحاب ولا أعز” حرب على كل هذه الأخلاق الحسنة.
حرب على مجرد عرض طريقة حياة شريحة من الناس. خشية أن نعلم أن هناك نماذج أخرى لإدارة الحياة.
حرب تلخص المشكلة التي نعيشها. أننا محاطون بنموذج فاشل. أصفه بالفاشل لأننا رأينا النتيجة في المجتمع. ورغم فشله يصر على أنه الأفضل، ويصر على فرض نفسه على الآخرين. نموذج خانق، متحرش، سلطوي، ضيق الأفق، يعتقد أن الحياة والعمر شأن تافه لا بأس بتكديره. بل الأفضل تكديره.
نموذج لا يقبله قِطٌ منزلي، ولا عصفور، ولا الأغلبية الكاسحة من البشر. لا تتبناه المجتمعات المتقدمة المهذبة.
الوافدون من هذه المجتمعات ينصدمون بأخلاق “مجتمعات الفضيلة”، وأول الصدمات التحرش. فتيات المجتمع يصرخن من التحرش. ألا ينبئنا هذا بشيء أبدا!!
الأخلاق مفهوم متطور. يختلف من زمن إلى زمن، حسب شكل معيشة الناس في ذلك الزمن.
الأخلاق إن كانت قديمة لم تتطور فهي سيئة، فاشلة، كسولة. تنتج الكبت والتحرش والعنوسة النفسية والجسدية. لكي يكون الخلق جيدا لا بد أن يكون أولا معاصرا، قادرا على إجابة أسئلة الحاضر، والتكيف مع متطلباته.
شكرًا لمنى زكي على وجه الخصوص أنها شاركت في هذا الفيلم. نتمنى أن نرى مزيدًا منه. نحن في حاجة إلى توسيع الأفق الأخلاقي، لكي نفكر – مجرد تفكير – في حلول وأنماط مختلفة عما نعرف.