أفلام قليلة يمكن اعتبارها نقطة تحول في مسار هوليوود. المصارع Gladiator الذي عرض في صيف عام 2000 بالتأكيد واحد منها. لكن معرفة حجم التغيير الذي أحدثه الفيلم تحتاج عودة للوراء ربما أكثر وأكثر، ولنظرة عامة لعقد التسعينيات ومفاهيمه الإنتاجية والتسويقية.
المبيد: يوم الحساب Terminator 2: Judgment Day
حديقة جوراسية Jurassic Park
آثار هذا النجاح ظهرت أكثر وأكثر في النصف الثاني من العقد، عندما كثفت هوليوود نشاطها في هذه النوعية، وامتزجت قراراتها الإنتاجية بالتطور السريع الذي أحدثته ألاعيب الكمبيوتر في الخدع البصرية، لتتصدر أفلام أخرى من نفس النوعية شباك التذاكر مثل:
يوم الاستقلال Independence Day
رجال بالملابس السوداء Men in Black
أرماجيدون Armageddon
أفلام خيال علمي تصدرت شباك التذاكر الأمريكي في التسعينيات
سيادة سينما الخيال العلمي انتقلت للأعمال التليفزيونية أيضًا، مع نجاحات قد يكون أشهرها مسلسل “الملفات السرية” The X-Files.
الكل في هوليوود تلك الفترة أصبح يسعى بالأساس لصناعة فيلم المغامرات العائلي/ الخيال العلمي/ المبهر بصريًا، باعتبارها المعادلة الأكثر جماهيرية.
أنجح 10 أفلام في تاريخ هوليوود | حاتم منصور
في نفس فترة الهوس بهذه النوعية، أسس المخرج والمنتج الشهير ستيفن سبيلبرج مع أصدقائه شركة “دريم ووركس” للإنتاج السينمائي، وظهرت باكورة إنتاجها عام 1997 لتثبت الشركة خلال عامين فقط بعدها، أنها الأكثر تنوعًا في اختياراتها ومغامراتها الإنتاجية.
أشهر أفلام دريم ووركس بين عامى (1997-1999).
التعاون بين السيناريست ديفيد فرانزوني، وسبيلبرج كمخرج ومنتج في فيلم “أميستاد” Amistad الذي أنتجته الشركة وعُرض عام 1997 سيشهد أيضًا لحظة ميلاد فيلم Gladiator كمشروع، عندما ناقش فرانزوني معه رغبته في صناعة فيلم مغامرات وأكشن وسط العصور الرومانية، أقرب لأمجاد هوليوود في الخمسينيات والستينيات، عندما اكتسحت هذه النوعية شباك التذاكر.
1- أن يتضمن السيناريو مصارعي الرومان.
2- أن تدور مشاهد القتال الفيصلية الأهم في الفيلم، في المدرج الروماني التاريخي الشهير “كولوسيوم”.
3- أن تتوقف حياة الأبطال على نتائج هذه المواجهات.
كيف شكل “يوسف شريف رزق الله” نقطة تحول في علاقة الملايين بالسينما؟ | حاتم منصور
بعدها بأشهر سيصل فرانزوني لبذرة أولية لقصة الفيلم، وسيقرر سبيلبرج بخبراته كمنتج، أن ريدلي سكوت هو الاسم الأنسب للإخراج.
استنتاجي الشخصي على ضوء شروط سبيلبرج الأولية واهتمامه بالـ “كولوسيوم”، أنه أراد للمشروع مخرجًا ذا خبرات عالية في عالم الديكورات، وفي بلورة وصياغة مكان ما بصريًا. وبالنظر لتاريخ ريدلي سكوت الحافل في هذه اللعبة، الذي يتضمن مثلًا أفلامًا وعوالم مثل Alien – Blade Runner – 1492 Conquest of Paradise يبدو هذا القرار منطقيًا إلى أقصى درجة.
Alien -1979
Blade Runner – 1982
Blade Runner – 1982
1492 Conquest of Paradise
تأثير المكان والأجواء سيصبح سببًا فعلًا في تولي سكوت المهمة، قبل ظهور سيناريو نهائي؛ لأن سكوت سيوافق عندما يجتذبه فرانزوني للمشروع بلوحة للرسام الفرنسي جان ليون جيروم بعنوان Pollice Verso يعود تاريخها لعام 1872. وبالنظر لتفاصيلها البصرية يمكن استنتاج ما جذب سكوت إليها.
مصارع يقف وسط ساحة الكولوسيوم الرومانية المهيبة، متأملًا إشارة الجماهير للقضاء نهائيًا على خصمه الجريح على الأرض، بينما يتابع القتال أيضًا الإمبراطور وحاشيته.
لوحة Pollice Verso
الثراء البصري في اللوحة، والتفاصيل الجذابة للأزياء والمكان، ومعالم الحماسة الجنونية للجماهير وهي تشاهد هذه اللحظة الدموية، كلها نقاط ساهمت في موافقة ريدلي سكوت، وانتقلت لاحقًا للفيلم نفسه، في مشهد احتفظ بكل معطيات اللوحة تقريبًا.
10 أفلام وتجارب سينمائية يصعب نسيانها في العقد المنتهي | حاتم منصور
اختار سكوت الوجة الصاعد راسل كرو لدور البطولة، في قرار جريء آخر سيجعل الفيلم يخاصم معايير التسويق أكثر وأكثر.
1- أجواء تاريخية رومانية خاصمها شباك التذاكر منذ عقود.
2- تصنيف رقابي R يسمح بعنف دموي، لكنه يحرم الفيلم من شريحة مهمة من الجمهور.
3- ممثل رئيسي أبعد ما يكون عن التصنيف كنجم شباك.
4- مخرج بتاريخ متعثر إلى حد كبير في شباك التذاكر.
لكن في مكاتب “دريم ووركس” وقتها، كانت الكلمة العليا لسبيلبرج.. وهذا لحسن الحظ.
راسل كرو في Gladiator
السيناريو سيشهد تعديلات لاحقًا على يد جون لوجان وويليام نيكلسون، اللذين أضافا مثلًا نقطة مقتل أسرة البطل، كدافع إضافي آخر لرغبته في الانتقام من الإمبراطور. رغم هذا سيبدأ تصوير الفيلم في يناير 1999 دون الوصول لسيناريو نهائي متفق عليه، وسيشهد صراعات عديدة وارتجالات يومية في المشاهد الحوارية بالأخص.
لكن يظل المطب الأصعب والأشهر من كل المعطيات الإنتاجية السابقة، هو وفاة النجم البريطاني أوليفر ريد صاحب دور “بروكسيمو” قائد العبيد، قبل إنهاء تصوير مشاهده.
عصر هوليوود الذهبي لم يصدأ بعد: 5 مفاهيم مغلوطة (جزء 1) | أمجد جمال | دقائق.نت
رغم تواجد عقد تأمين يسمح بتغطية تكاليف تصوير مشاهده كلها، مع ممثل جديد، قرر ريدلي سكوت الاحتفاظ بأوليفر ريد في الدور، وطالب بتعديلات في السيناريو لتحل إشكالية بعض المشاهد الناقصة المطلوبة. بينما لجأ إلى ألاعيب بصرية، لتنفيذ مشاهد أخرى بممثل آخر، ثم تركيب وجه أوليفر ريد عليها بفضل حيل الجرافيك.
من اليمين: أوليفر ريد مع المخرج ريدلي سكوت
يقال إن هذا الحل تكلف أكثر من ثلاثة ملايين دولار، لكنه أيضًا جعل الفيلم يسجل سابقة جديدة في عالم صناعة السينما، سيعاد استخدامها عدة مرات في مآزق إنتاجية مماثلة، قد يكون أشهرها فيلم Furious 7 عندما توفي بول ووكر قبل إنهاء تصوير مشاهده.
5 أسباب جعلت “جون ويك” علامة في تاريخ الأكشن | حاتم منصور
في مايو 2000، بدأ عرض الفيلم عالميًا، ليكسب سبيلبرج رهاناته السينمائية كالعادة، ويصبح “المصارع” المعاكس تمامًا لاتجاهات هوليوود وقتها، ثاني أنجح أفلام العام ككل من حيث الإيرادات، بإجمالي عالمي تجاوز الـ 460 مليون دولار، منها 188 مليونًا من السوق الأمريكي وحده. رقمين لم يتجاوزهما على مدار العام إلا فيلم “المهمة المستحيلة 2” الذي حقق إجماليًا قدره 546 مليونًا، منهم 215 مليونًا من السوق الأمريكي.
أمجاد المصارع ستتواصل في الأوسكار، ليحصد 5 جوائز كأفضل (فيلم – ممثل/راسل كرو – ملابس – صوت – مؤثرات بصرية) بالاضافة لـ 7 ترشيحات كأفضل (إخراج – سيناريو – ممثل مساعد/واكين فينكس – تصوير – مونتاج – موسيقى تصويرية – ديكور).
لكن أثر المصارع الأكبر، سيتضح أكثر وأكثر بعد عامين أو ثلاثة، مع عودة هوليوود على ضوء نجاحه إلى المغامرات التاريخية، وظهور أفلام عديدة ضخمة من هذا النوع.
أفلام مغامرات تاريخية صُنعت بعد نجاح “المصارع”.
قد يحلو للبعض الاحتجاج بفيلم القلب الشجاع Braveheart كعمل متعلق أيضًا بالأجواء والمغامرات التاريخية، ويسبق المصارع من حيث تاريخ العرض (1995). لكن عمليًا وبلغة الأرقام، حقق الفيلم وقتها 213 مليون دولار فقط عالميًا، وهو رقم عادي جدًا مقارنة بإيرادات أفلام ميل جيبسون طوال التسعينيات (العقد الذي شهد ذروة نجوميته). ورقم يمثل أيضًا أقل من نصف ما حققه المصارع.
بصياغة أخرى، لم يترك القلب الشجاع أبدًا رغم شهرته أي تأثير انتاجي قوي، أو تغير في المفاهيم بخصوص هذا النوع في هوليوود. بل كان ببساطة فيلمًا جرى تسويقه من البداية من منطلق وزن نجمه، وتفسير نجاحه لاحقًا من نفس المنطلق.
فيلم كليوباترا | كيف لخص اختيار جال جادوت أزمات الشرق والغرب المعاصرة؟! | حاتم منصور
المصارع بالمقارنة حقق العكس، وأثبت أن هذه النوعية من الأفلام يمكن أن تلتحم بمعايير العصر، لتصبح النتيجة النهائية فيلم “بلوكباستر” من حيث الثقل البصري، ومن حيث إيرادات شباك التذاكر عالميًا.
راسل كرو لم يكن نجمًا وقت عرض المصارع، بل صار نجمًا بسببه. والطريف أنه عاد للتعامل مع ريدلي سكوت في أفلام أخرى، تتضمن نسخة جديدة لـ “روبين هود” عام 2010، لكن أيًا منها لم يصمد في اختبار الزمن بنفس قدر المصارع، ليظل حتى اليوم رمزًا لنجاح فائق يمكن أن يتحقق، عندما تقرر هوليوود – ولو قليلًا – الخروج من ملاذها الآمن.
الأهم أن المصارع قدم شهادة إثبات على عدم صدق الادعاء بأن الجمهور يمكن أن يخاصم نوعًا معينًا من الأفلام نهائيًا، توجد مساحة نجاح دومًا لكل النوعيات، بشرط أن تتطور مع معطيات عصرنا.
مستقبل الترفيه: كيف تحققت نبوءة مخرج تيتانك في لعبة العروش وأفنجرز؟ | حاتم منصور
ربما ساهم نجاح المصارع في موافقة منتج ما على فيلم غنائي أو استعراضي مثلًا! لن نعرف أبدًا. لكن ما أعرفه جيدًا أن الجمهور الذي شاهد هذه الملحمة البصرية المهيبة على شاشات السينما العملاقة في صيف 2000، سيظل غالبًا يذكر حتى اليوم، إلى أي مدى كان “المصارع” مختلفًا عن أي فيلم آخر معروض في القاعات المجاورة.
ما نفعله في حياتنا سيتردد صداه في الأبدية.
What we do in life, echoes in eternity
الجملة السابقة الشهيرة التي رددها البطل وسط الأحداث، وتصدرت اللافتات الدعائية للمصارع، أثبتها الفيلم نفسه لتظل أصداؤه تتردد حتى اليوم، وتترك بصمتها في قرارات هوليوود.
موضوعات متعلقة
نسخة للطباعة
