باحث بجامعة لوزان - سويسرا
سنويًا، في ذكرى حرب أكتوبر 1973، يعود الجدل العبثي حول من انتصر.
يشبه الكُتّاب والساسة في تكرارهم لمقولة “انتصرنا” العبثية مشهد “الدكتور خشبة” في فيلم مطاردة غرامية، حين طالب المريض بتكرار “أنا مش قصير أوزعة.. أنا طويل وأهبل” حتى أنه من فرط التكرار زاد 5 سنتيمترات قبل ترك العيادة.
هناك من يتوشح روح الهزيمة، فيكرر أن مصر انهزمت في حرب أكتوبر بسبب الثغرة.
في مصر أيضًا من يواجه ذلك بحقيقة أن الثغرة كانت – كما أسماها السادات – ظاهرة “تلفزيونية” لأنها كانت محاصرة بقوة نارية وعسكرية تتراوح بين 1.5 إلى 3 مرات، وكان يمكن سحقها.
لكن أحدًا لم يجب: لماذا لم تسحق إذن!
ذلك لأن كثيرين من المعلقين المصريين لا يزالون ناصريي الهوى، لا يتكلمون إلا بالشعارات عن “سحق الكيان الصهيوني”. ولأن العقلية الشعبوية التي تنتشي بصور حرب أكتوبر تتغافل أنها جزء من كل.
هذا الكل هو استراتيجية السلام التي رأى السادات أن سحق الثغرة بمذبحة سيدمرها.
إذًا، حينما يقول أحدهم إن إسرائيل أو مصر انتصرت في حرب أكتوبر فعليه شرح اصطلاح “انتصرت”.. ما هي حيثيات الانتصار؟
النور الساطع | لأول مرة بالوثائق: أخطر أسلحة إسرائيل في حرب أكتوبر.. هل كان حقيقيًا؟ | مينا منير
بعد إعلان وقف إطلاق النار يوم 22 أكتوبر، اجتمع كيسنجر بمجموعة من رجال الخارجية والمخابرات، بحضور رئيسها آنذاك، ليطلعهم على الصورة الكاملة لكل ما حدث ظناً منه أن حرب أكتوبر انتهت.
1- المخابرات المصرية نجحت في خداع جهازي المخابرات الإسرائيلي والأمريكي بشكل خطير.
2- الوضع العسكري يؤكد أنه حال قيام إسرائيل بضربة استباقية نهار السادس من أكتوبر، لما تغير الموقف، إن لم يزِد سوءًا، من الناحية السياسية في إسرائيل، وكذلك السيناريو العسكري الذي كان سيحدث في كل الحالات (أي موت وخراب ديار).
3- فلسفة الحرب المصرية والإسرائيلية تختلفان جوهريًا، وهو سبب نجاح مصر على حساب إسرائيل.
يقول كيسنجر: “They would not surrender, once they were surrounded”.
قبل هزيمة الجيش الإسرائيلي يوم 8 أكتوبر، كانت الإستراتيجية الأمريكية تقضي بردع العرب للعودة لحدود ما قبل 6 أكتوبر، وأن يحدث ذلك على يد الإسرائيليين؛ ليفهم العرب أن الخيار العسكري لحل القضية غير متاح.
ما يؤكد رؤية كيسنجر هي مكالمة هاتفية أجراها ليلة 7 أكتوبر مع الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، ووردت في كتابه Crisis، حيث نقل لنيكسون نفس التطمينات الإسرائيلية. ليرد نيكسون ساخرًا:
“يا لهؤلاء المصريين الأغبياء المساكين، ستدمر جسورهم من خلفهم، ثم يسحقون بالكامل”
ثم يستطرد نيكسون ليؤكد أن
“على الولايات المتحدة ألا تترك الإسرائيليين لنشوتهم بعد هذا الانتصار المتوقع، ويجب التعامل في ضوء مصالح الولايات المتحدة العُليا”.
أما بعد الهزيمة الساحقة التي لم تُبق للإسرائيليين إلا بضع لواءات تقف كآخر خط دفاع لإسرائيل نفسها مساء 8 أكتوبر، فصار سقف استراتيجية الأمريكيين هو “إنقاذ إسرائيل من الفناء“، ثم “تثبيت وقف إطلاق النار“.
وعليه، فإذا كان “الانتصار في حرب أكتوبر” هو تحقيق الهدف الإستراتيجي، فإن كيسنجر يفهم الانتصار الذي حققته الولايات المتحدة وإسرائيل في أن إسرائيل لم تتلاشَ. هذا ما قاله بالفعل في الوثيقة المذكورة.[1]
في خطابه أمام مجلس الشعب يوم 16 أكتوبر، ذكر السادات صراحةً أنه على علم بالوضع المتأزم. لكن هذا الوضع لن يفرض على مصر وضعًا جديدًا؛ لأن ما يحدث من عبث ستكون له حدود: “إلى أين؟ وإلى متى؟ ومصالحكم كلها عندنا وليس إسرائيل”.
لم يعِ كيسنجر تساؤل السادات الذي وجهه – في الخطاب مباشرةً – إلى نيكسون، حتى ظهرت بوادر أزمة جديدة: إيماءات مصر لأمريكا بدور محوري في السلام، قد تسقط بعناد إسرائيل، وسيستمر حصارا باب المندب والنفط، وعلى كيسنجر أن يختار: إما مصالح أمريكا، أو مصالح إسرائيل.
فشلت عملية الثغرة في السيطرة على أية نقاط استراتيجية. لكنها قطعت خطوط إمداد مدينة السويس، ومن خلفها الجيش الثالث الميداني.
لكن – مرة أخرى – يكتشف كسنجر، أن نجاح هذا الحصار مرتبط – من حيث المبدأ – بخرق قرار مجلس الأمن رقم 338، بوقف إطلاق النار، مما يعني أن أمريكا بالفعل ستخسر عرض السادات التاريخي، بل والأخطر هو أن ما بقي من جيش إسرائيل في الثغرة مُعرض للإبادة، وحينها ستكون النهاية لكل شيء.
فبعد حديثٍ هاتفي مع وزير خارجية مصر إسماعيل فهمي، أدرك كسنجر أن فك الحصار لن يكون فقط مقابلًا لطلبات إسرائيل بالإفراج عن الأسرى،
بل هناك عامل آخر احتاج كيسنجر التأكد منه: هل ستقبل مصر بفك الحصار مقابل عدم إبادة الثغرة؟
يتساءل (السفير البريطاني) كرومر: كيف؟ ليرد كيسنجر عليه: إذا نجحوا (المصريون) في وضع صواريخ سام 6 حول الثغرة، سيكتمل الحصار جوًا وبرًا.
بناءً على ذلك، يتحرك كسنجر سريعًا للقاء جولدا مائير وقيادات إسرائيل العسكرية والسياسية، ويجري الحديث في منتصف ليل 3 نوفمبر، على مدار 3 ساعات من الشد والجذب سجلتها محاضر الوثيقة “93 – سري للغاية.”
اكتملت الصورة لدى كسنجر. وبات حتميًا لديه أن إسرائيل تقف في طريق مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، كما عرض السادات الموقف تمامًا.
حينما بدأت جولدا مائير حديثها بالتفاخر بأن الوضع الجديد، ما بقي فيه للمصريين إلا تسليم الأسرى أو فناء السويس والجيش الثالث، رد كيسنجر ممليًا شروطًا قاسية:
“أولاً: على إسرائيل أن تدرك أن الجسر الجوي سيقف. وأن إسرائيل ستكف معه عن القتال”
يبدو أن الحديث ازداد حدة، عندما قالت جولدا إنها “لن تقف، لأن ما حدث في 6 أكتوبر كان مهينًا جدًا، ولن تغفر للمصريين إلا بتحطيم جيشهم”. فرد كيسنجر ساخرًا: “إذًا عليكِ مواجهتهم وقول ذلك بنفسك، وعليكِ أيضا مواجهة الروس الذين سيفكون الحصار جواً“.
كسنجر: “نعم.” بل ويُخبرها صراحةً، أن “إسرائيل خسرت المعركة السياسية“، وأن القضية الآن “تخص بقاء إسرائيل” إذا ما قررت دفع الجيش المصري للقتال.
وعليه، “إن لم تقبل إسرائيل العودة لخطوط 22 أكتوبر وتقديم تنازلات، فأمريكا ستُجبر على التصويت ضدكم في حال تقديم مشروع قرار – في هذا الصدد – إلى مجلس الأمن.”
هنا أدركت جولدا حقيقة الموقف، وأن ما أسماه كسنجر: تبجحًا إسرائيليًا Israeli cockiness، يجب أن يتوقف في الحال. فقالت، وهنا كاتب المحضر يذكر بين قوسين (كان صوتها مُهتزًا) : هل تقول إننا ليس أمامنا خيار؟
يبدو أن كيسنجر لم يكتفِ بهذا القدر من الإذلال لجولدا. بل أمعن في خشونته، قائلًا: “أنا فقط وضعت الحقائق أمامك. وفي صباح السبت، إن لم يتم السماح بإمداد الجيش الثالث، ستقوم أمريكا نفسها بإمداده”.
ثم يخبرنا المحضر، أن قدرًا من الصمت ساد. فيكمل كيسنجر بنبرة أقل عنفًا: “إذا ذهبتُ إلى القاهرة ولم يوافقوا على عرضكم، فسنضطر لمواجهة الضغط الذي يُحدثه انقطاع النفط، وأقول لك: هذا الضغط في أبريل لا يُعد شيئًا مقارنةً بالضغط في نوفمبر.
ثانيًا: أن يهددكِ السوفييت – في سياق خرقكم لوقف إطلاق النار الذي فعلتموه – فسيكون ذلك مبررًا”.
تقرير سري| كيف اعترف جمال عبد الناصر بفشل الاشتراكية في خطاب التنحي!! | مينا منير
أدرك السادات أن إسرائيل يمكن هزيمتها في معركة لا تحتاج أكثر من 24 ساعة، وهو ما حدث.
أما القضية الأكبر فكانت الولايات المتحدة.
نجح الرجل أولًا في تقطيع أوصال المعسكر الغربي؛ عندما خلق – بقنواته السرية – تحالفًا مع أوروبا، واليابان بل وحتى الصين، ثم أحكم الحصار الاقتصادي (بقطع النفط)، والجغرافي (بقطع الملاحة في البحر الأحمر جنوبًا وشمالًًا)، والجيوسياسي باستعداء الغرب لأمريكا.
أضف إلى كل هذا الذي يمثل العصا، كانت هناك الجزرة وهي تحقيق سلام شامل يعزز مكانة أمريكا من مجرد زعامة الغرب إلى وضعٍ مركزيٍ في العالم.
كل هذه الضغوطات والوعود – التي وصفها كسنجر بالـ “مَهُولة” في الوثيقة المذكورة – وُضعت في كفة مقابل كفة إسرائيل.
فكانت النتيجة سحق مصالح الأخيرة على يد حليفتها؛ الأمر الذي لا يمكن التعبير عنه بأبلغ من كلمات جولدا مائير وموشي دايان – في مذكراتهما – حيث وصفا الأمر بـ “المهانة والخيانة التي لن تُغتفر”.
كانت الملحمة السياسية – التي أدارها السادات ومستشار الأمن القومي حافظ إسماعيل، الذي كان يعمل كبوابته السرية للاتصال بالجميع خفاءً – لا تقل في خطورتها عن العملية العسكرية المحدودة، التي بدأت في 6 أكتوبر.
ولعل ما ذُكر في هذه الوثائق، يجعلنا نقف كثيراً أمام ما يُقال اليوم من أحاديث عن هزيمة مصر السياسية والعسكرية، في حين أن ما اقتُبس هنا في هذا المقال وحده يُوضح أن إسرائيل قد استسلمت فعليًا.
6 أسباب لنكسة السينما المصرية المستمرة بخصوص أفلام حرب أكتوبر | حاتم منصور
[1] “What Israel gained out of it is first that they avoided, literally avoided the precipice.”