حتى اليوم، ورغم مرور ما يقارب 40 عامًا على عرض فيلم The Shining للمخرج ستانلي كوبريك، لا يزال الفيلم محتفظًا بتركيبة خاصة جدًا من حيث ردود الفعل.
الجمهور لم يقبل عليه وقت عرضه بالقدر المتوقع من فيلم بطولة جاك نيكلسون (واحد من أهم نجوم الشباك وقتها). أما النقاد فاعتبروه دون المستوى، وصنف بعضهم الفيلم كسقطة في تاريخ المخرج. ولمزيد من الإدانة والاستهزاء، نال كوبريك وقتها ترشيحًا لجائزة الرازي كأسوأ مخرج.
هذا ما حدث بين عامي 1980-1981. أما اليوم، فللفيلم إرث مختلف، يتراوح بين التصنيف كواحد من “أهم أفلام الرعب”، أو الحضور في صدارة القوائم التي تحمل هذا العنوان.
لكن القصة الأغرب تظل بالتأكيد الكراهية المستديمة لمؤلف الرواية ستيفن كينج للفيلم، واعتباره دون المستوى وإهانة للأصل الأدبي، بسبب تغييرات عديدة أجراها كوبريك. يمكن القول أنها معركة كرامة. كلما مر الزمن كلما ازداد الفيلم أيقونية، وكلما ازداد إصرار كينج على أن الفيلم أقل من روايته، وضعيف في المجمل!
هذا الإصرار وصل إلى قيام كينج عام 1997 بكتابة السيناريو لمعالجة تليفزيونية مدتها 4 ساعات، يعيد فيها القصة لأصلها الأدبي. غني عن القول طبعًا أن هذه النسخة نُسيت؛ لأنها لا ترقى لتحفة كوبريك بأي معيار!
نحن الأن في 2019، وشركة وارنر تقرر اقتباس رواية Doctor Sleep التي أصدرها كينج عام 2013 وتُعتبر تكملة لـ The Shining. خمن ما هو الطابع السينمائي والتأصيل البصري الذي اختارته الشركة والمخرج مايك فلاناجان للأحداث السابقة؟!
بالتأكيد فيلم كوبريك!.. بعض الحروب لا يمكن أن تربحها أبدًا، ومن ضمنها بالتأكيد أي معركة سينمائية ضده!
رغم هذا، يأتي فيلم Doctor Sleep ليصالح الطرفين إلى حد كبير، ويتحرك كسرد بقدر يجمع بين رؤية كينج الأصلية في الرواية الأولى، ورؤية كوبريك في فيلمه عنها.
أنجح 10 أفلام رعب في التاريخ |حاتم منصور
الأحداث تبدأ بعد شهور من حيث انتهى فيلم كوبريك، لكن أغلبها يدور بعد عقود من ذلك، بعدما أصبح داني تورانس (الطفل في الفيلم الأول) رجلًا في منتصف العمر. داني لا يزال يعاني من ذكريات طفولته المرعبة. ولا يزال كذلك محتفظًا بقدرة “الوميض” إذا اعتبرنا المصطلح أقرب ترجمة للمقصود بـ Shining.
بسبب هذه القدرة، سيتورط في تجربة مرعبة جديدة. تجربة ستجبره في النهاية على العودة الى أخر مكان يود زيارته؛ إلى فندق “أوفرلوك” الذي شهد فيه أصعب لحظات طفولته.
السيناريست والمخرج مايك فلاناجان، يملك بعض المهارات فيما يخص اختيار وتوجيه الممثلين، وإلى حد كبير يمكن القول إن أداء إيوان مكريجور لا بأس به في الدور الرئيسي، وإن كانت الجميلة السويدية ريبيكا فيرجسون التي اشتهرت بفضل سلسلة المهمة: مستحيلة مؤخرًا، هي التي تخطف الأضواء، بفضل شخصية لم نعتدها منها.
كيف حقق توم كروز المستحيل في Mission: Impossible – Fallout؟
لكن باقي الأدوار المهمة، وعلى رأسها دور الطفلة الصغيرة، لم تكن بنفس الحظ. أداؤها سطحي وساذج وضمن مشكلات الفيلم.
على المستوى السردي، يعاني الفيلم أيضًا في نصفه الأول من ضعف في الترابط، ويستغرق وقتًا أطول من اللازم ليجمع خيوطه كلها في قصة واحدة. مشكلة ستتضاعف حدتها بالتأكيد للجمهور الذي لم يشاهد The Shining. وبالمناسبة لا يصلح فيلمنا هنا نهائيًا لمن لم يشاهده.
على الجانب البصري، للمخرج مهاراته من حيث التكوينات البصرية واختيار الزوايا، لكنه للأسف يفسد ذلك بانتظام، بالإصرار على وضع رتوش وتفاصيل بالجرافيك، بدلًا من الاعتماد على المدرسة القديمة (الماكياج والألاعيب أمام الكاميرات نفسها).
هذه المشكلة عانى منها أيضًا فيلمه السابق Gerald’s Game لكنها هنا تزداد حدة ووضوحًا بسبب المقارنة الإجبارية مع الطابع البصري لفيلم The Shining.
رغم هذا، يظل أفضل ما في الفيلم ربما هو احتفاظه بمسار وروح مستقلة بقدر ما عن فيلم كوبريك، قبل أن يصل بنا في النهاية وبعد الكثير والكثير، إلى فندق “أوفرلوك” بكل تفاصيله. الوصول لهذه المحطة من الناحية الدرامية، أقرب هنا لمكافأة وعلاج ضروري لبطل الفيلم من ناحية، ومكافأة مماثلة للمتفرج العاشق لفيلم كوبريك من ناحية أخرى.
مايك فلاناجان مخرج Doctor Sleep كان محظوظًا لأن ستيفن سبيلبرج سبقه لهذا، وقام بأغلب الجهد المطلوب بالفعل، من أجل مشاهد في فيلمه Ready Player One الذي أنتجته شركة وارنر أيضًا وعُرض في 2017. لذا لم يحتج فلاناجان للكثير من الجهد والبحث لبناء فندق أوفرلوك من جديد، سواء على صعيد الديكورات، أو على صعيد التفاصيل والخلفيات البصرية التي يضيفها الجرافيك.
لكنها أيضًا كنهاية مكافأة ثالثة لستيفن كينج كمؤلف؛ لأنه ينهي القصة والفيلم هنا بشكل أقرب ما يكون لنهاية روايته The Shining.
أسطورة “ما وراء الطبيعة” التي لن يجرؤ عمرو سلامة على تقديمها في نتفليكس | الحكاية في دقائق
لذا، يمكن القول أن Doctor Sleep يعالج نفسه كفيلم بمقطع ختامي هو الأقوى؛ بفضل اقترابه من فيلم كوبريك. ويعالج بنفس المقطع الجمهور الذي دام بحثه عن سحر الأصل في المقاطع الأولى. ويعالج أيضًا كبرياء ستيفن كينج، الذي دامت جروحه ما يقارب 40 سنة بسبب فيلم كوبريك!
في زمن تسعى فيه هوليوود بانتظام لإعادة حلب أمجاد الماضي لدواعٍ مادية وليست إبداعية، وتفرض فيه على جمهورها بالمقابل تغييرات لا محل لها من الإعراب بسبب أجنداتها السياسية – وكلاهما صفة موجودة في فيلم “المدمر 6” المعروض حاليًا مثلًا – يبدو Doctor Sleep كعمل مختلف فعلًا.
Terminator: Dark Fate.. المصير الهوليوودي المظلم مستمر بفضل الأجندات النسوية والعرقية | حاتم منصور
هذا فيلم يقتبس الكثير من أمجاد ونجاحات الماضي، لكنه لا يخلو من لمسات فنية. وعندما يقترب من الأصل السينمائي الذي سبقه، لا يقترب بغرض الاستنساخ، ولا بغرض المحو والتغيير، لكنه يقترب بتفهم. بصياغة تحترم الأصل لأقصى درجة، وتحافظ عليه في ذاكرتنا كما كان.
عودة داني تورانس للشاشات لا ترقى بالتأكيد لتحفة كوبريك الشهيرة، لكن فيلم Doctor Sleep – رغم عيوبه – يملك جودة تفوق أغلب أفلام الرعب التي نشاهدها اليوم، ويرسل تحية عطرة إلى سحر الأصل وعشاقه. الزيارة قد لا تكون ضرورية، لكن فندق “أوفرلوك” لا يزال يملك ولو قليلًا، من عبق ورونق كوبريك، مهما أغضب ذلك ستيفن كينج!