المقارنة بين ما تقدمه هوليوود هذه الأيام، وما قدمته قديمًا، يخبرنا عادة بالكثير عن التغيرات، ليس فقط على نطاق السينما، لكن في المشهد الثقافي والإعلامي ككل.
في فيلم الكوميديا القدوم لأمريكا 2 Coming 2 America تزداد هذه المقارنة ثراءً؛ لأننا هذه المرة نقارن جزءًا ثانيًا يفصله 33 عامًا بالتمام والكمال عن الفيلم الأول (1988).
كيف افترست التكنولوجيا السحر والخيال في “الملك الأسد 2019″؟ | حاتم منصور
الفيلم الأصلي الذي أخرجه جون لانديس بدأ عرضه في ذروة نجومية إيدي ميرفي في الثمانينيات، ودارت أحداثه عن أمير أفريقي ثري، يرفض ترتيبات والده الملك للزواج من فتاة غبية، وينطلق في رحلة إلى أمريكا وهو متنكر في هيئة شاب فقير، للبحث عن فتاة ذكية تحبه لشخصه وليس لثرائه ومكانته الملكية.
وبالفعل يجد نصفه الآخر في فتاة سمراء رقيقة، لا تمانع في الارتباط به، حتى وهو مجرد عامل نظافة، لأنه طيب القلب ومكافح.
في عقد الثمانينيات، لم تكن هوليوود قد رضخت بعد لمزايدات الصوابية السياسية، لذا امتلأ الفيلم بكل ما لذ وطاب من النكات، ليس فقط عن الحياة في أفريقيا، التي يقدمها الفيلم بطابع كارتوني طفولي كعادة أفلام الكوميديا في هذا العقد، لكن أيضًا عن الحياة وسط السود في نيويورك.
One Night in Miami | ليلة عن العنصرية مع 4 أيقونات – 4 عيوب – 4 أجندات | حاتم منصور
على سبيل المثال: بمجرد وصول البطل، يتعرض فورًا لسرقة حقائبه. وطوال الوقت يقابل بشرًا لا تمانع في ممارسة النصب بدرجة ما، ومنها مثلًا صاحب مطعم يزيف لمطعمه اسمًا مشابهًا لاسم ماكدونالدز، لخداع الزبائن أنه فرع لهذه السلسلة الشهيرة!
أما مجتمع الإناث السود، فهو أكثر استغلالًا وأقل براءة من الذكور، وباستثناء البطلة التي وقع البطل في حبها، فالباقيات يبحثن فقط عن علاقة ارتباط توفر لهن حياة رغدة بدون تعب.
يمكننا اليوم بسهولة أن نخمن مصير مشروع فيلم من هذا النوع، إذا حاول أحد صناعته في عصر الصوابية السياسية، وكمية اتهامات العنصرية والذكورية وحملات الإلغاء التي سيتعرض لها كل من سيشارك في فيلم كهذا (بفرض إنتاجه).
كيف أصبحت الأجندة النسوية المعاصرة في هوليوود منفرة؟ | حاتم منصور
لكن في الثمانينيات، كانت الأمور أكثر بساطة، وأقبل الجمهور الأمريكي على الفيلم بكل أعراقه وأطيافه، وضحك فيه دون أية حساسيات أو مزايدات من هذا النوع. وإلى اليوم لا يزال محتفظًا بشعبيته.
والسؤال: كيف ستصنع هوليوود إذن جزءًا ثانيًا من فيلم، لن تصنعه أصلًا اليوم؟!
يحتفظ فيلم Coming 2 America وسط طاقم السيناريو الذي يضم 4 أفراد إجمالًا، بنفس الثنائي الذي كتب الأصل (ديفيد شيفيلد – باري بلاوستين).
الأحداث عن الأمير أكيم الذي أصبح الآن ملكًا وأبًا لأكثر من فتاة. لكن يتوجب عليه اختيار ولي عهد ذكر للعرش طبقًا لأعراف مملكته. والمخرج الوحيد المحتمل للأزمة، هو أن يعود لأمريكا للبحث عن ابن أنجبه من علاقة عابرة في زيارته الأولى، وإعداد هذا الابن لتولي العرش.
Long Shot.. الرومانسية الكوميدية من داخل المطبخ السياسي | أمجد جمال
نشاهد هذا الفتى الأسود الأمريكي في بداية الأحداث، وهو يتعرض للعنصرية والتهميش في فرص العمل والدراسة، بسبب الامتيازات التي يحصل عليها أصحاب البشرة البيضاء في أمريكا.
وبعد أحداث عديدة، ينتهي الفيلم بالملك وهو مقتنع أن ابنته هي الأجدر بالمنصب، وأنه آن الأوان لتغيير القواعد والأعراف، وتمكين المرأة. بينما يتعلم الابن دروسًا مهمة في حياته، ويكتشف ذاته، بفضل رحلته إلى أفريقيا.
الحبكة إجمالًا متوافقة جدًا مع أجندات النسوية والصوابية السياسية المعاصرة. لكن الفيلم رغم ذلك يحتفظ ببعض جينات الأصل، ولا يخلو من بعض ألاعيب السخرية المخالفة للقواعد.
الكثير من هذه النكات يتركها الفيلم لشخصيات محل الحلاقة، التي يرثها من الفيلم الأول، وفيها يعود إيدي ميرفي وأرسينيو هول تحت الماكياج المكثف، لتقديم مشاهد تسخر من هراء الصوابية السياسية ومزايداتها وغرائبها.
في هذه المشاهد بالأخص يستعيد Coming 2 America قليلًا من سحر الأصل وقوته ككوميديا، ويذكرنا أن الفن والسينما أبسط كثيرًا من كل هذه التعقيدات والأسوار والخطوط الحمراء، التي وضعتها تيارات اليسار والفيمنزم.
الملاحظة الثانية أن كل الشخصيات التي أضافها الفيلم الثاني، وعلى رأسها الابن والابنة، لم تنجح نهائيًا في خطف الأضواء من نجوم الأصل، رغم المساحة الزمنية الكبيرة التي توفرت لممثلين هذه الأدوار، على حساب نجم الفيلم نفسه (إيدي ميرفي).
الملاحظة الأخيرة تخبرنا بالكثير عن السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات. هذه العقود لم تشهد تلميعًا واهداء فرص لعديمي الموهبة، تحت مظلة الصوابية السياسية والتنوع العرقي.
ولهذا أنتجت لنا نجوما ومواهب في وزن إيدي ميرفي – أرسينيو هول – دينزل واشنطن – مورجان فريمان – ويل سميث – مايكل جاكسون.. وغيرهم.
أغاني الثمانينيات | 9 أغنيات و9 أسباب تؤكد أنه عصر الموسيقى الذهبي | أمجد جمال
يمكننا اليوم أن نتوقف بحسرة عند تأمل الأسماء والأفلام التي أهدتها تيارات الصوابية السياسية والنسوية لهوليوود في المقابل طوال العقد الأخير، وعن حصاد كل محاولات التلميع والجوائز غير المستحقة. وأن نتساءل هل سنذكر هذه الأسماء والأفلام بعد 30 عامًا من الآن؟
الاجابة الأمينة محرجة ومحبطة. لكن على الأقل لازلنا نملك إيدي ميرفي وأرسينيو هول وآخرين من دفعات المواهب الحقيقية، كدليل أن العصور التي تم وصمها بالعنصرية، كانت أكثر كفاءة ونزاهة في التقييم وتوزيع الفرص، من عصر ادعاءات المظلومية والمحاصصات الحالي.