عباقرة الفلسفة (3) | أناكساجوراس .. فيلسوف “النظام الإلهي” الذي حوكم بتهمة الإلحاد | مصطفى ماهر

عباقرة الفلسفة (3) | أناكساجوراس .. فيلسوف “النظام الإلهي” الذي حوكم بتهمة الإلحاد | مصطفى ماهر

11 May 2021
فلسفة
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

جميع الكائنات كانت مختلطة في كيان واحد كالدوامة، ثم جاء النوس nous ورتبها ونظمها” – الفيلسوف أناكساجوراس Anaxagoras ( ٥٠٠ – ٤٢٨ ق.م).

النوس مصطلح يوناني قديم يعني حرفيًا  العقل ويُستعمل أيضًا للإشارة إلى الوجود الإلهي المنظم للكون. أما صاحب العبارة فكان أول من واجه تهمة الإلحاد في تاريخ الفلسفة! 

كيف يمكن اتهام أناكساجوراس بالإلحاد رغم أنه يصرح بأن العقل الإلهي هو المنظم للوجود، بل هو أول من صرح بتلك الفكرة في الفلسفة اليونانية؟!

في المقالة الثالثة من سلسلة “عباقرة الفلسفة” نعرض حياة وأفكار ذلك الفيلسوف المثير للجدل. 

المنظم العليم القادر

أناكساجوراس من أبناء مدن إيونية الساحلية. تعلم في موطنه الفلسفة على يد أتباع الفيلسوف أنكسيمانس. ثم رحل إلى أثينا عندما بلغ الأربعين، حيث كانت حينها في عز مجدها بعد الانتصار على الفرس. وهناك تعرف على بيريكليس حاكم أثينا وصار أستاذًا له.

أناكساجوراس

أناكساجوراس

كان أناكساجوراس كباقي فلاسفة الطبيعة في زمنه يحاول العثور على تفسير للمادة التي تتكون منها الطبيعة.

وبدلًا من رد الطبيعة كلها إلى مادة واحدة، سواء كانت الماء أو الهواء أو النار كما فعل طاليس وأتباعه في مالطية، قال أناكساجوراس إن الوجود مكون من جزيئات لا متناهية في العدد والنوع، وهي تجتمع في كل جسم بنسب متفاوتة، ويتحدد نوع كل جسم بنسبة الجزئيات الأكثر فيه، سواء كانت الغلبة لجزيئات العظم أو الشعر أو اللحم أو الدم وهكذا، في ما عرف بنظرية “الجزيئات المتجانسة” والتي تعتبر من أقدم الأفكار الفلسفية التي مهدت الطريق لظهور نظرية الذرات والجزيئات التي تتركب منها الأجسام التي سيتبناها العلم الحديث (التجريبي) فيما بعد. 

لكن كيف تحولت تلك الجزيئات من حالة الفوضى إلى النظام الكوني الذي نشاهده؟

رفض أناكساجوراس القول بالصدفة في تنظيم العالم؛ فالقول بالصدفة – عنده – لفظ نخفي به عجزنا عن اكتشاف العلة الحقيقية التي نظمت العالم، فالنظام من صنع العقل لا يأتي صدفةً،

وبالتالي كان الفاعل الذي نظم الكون عنده هو النوس Nous، والذي يصفه أناكساجوراس بأنه “ألطف الأشياء وأصفاها، بسيط ومفارق للمادة، عليم بكل شيء، قادر على كل شيء”.

أناكساجوراس

أناكساجوراس

تهمة الإلحاد

أفكار أناكساجوراس كما لخصناها كانت بعيدة كل البعد إذن عن الإلحاد. فلماذا اتهمه أهل أثينا بذلك وقرروا محاكمته؟ 

كان أناكسجوراس غريب الطباع بالنسبة لأهل أثينا؛ فعلى العكس من هوسهم الكبير بالسياسة، لم يظهر أي اهتمام بها.

وعوضًا عن ذلك كان مشغولًا جدًا بتأمل ودراسة الظواهر الفلكية ومراقبة الأجرام السماوية، وعندما سأله شخص من أثينا: “أفلا تولي أدنى قدر من الاهتمام لوطنك؟”، رد عليه بقوله: “صه! إنني أهتم بوطني اهتمامًا لا مثيل له” وأشار إلى السماء، وكانت أفكاره حول الأجرام السماوية خاصةً هي السبب لاتهامه بالإلحاد. 

اعتبر أن الشمس كتلة من النار الحمراء المتوهجة، وأن القمر يحتوي على جبال وتلال، والنجوم تتحرك عبر السماء كما لو كانت تسبح في قبة مستديرة. بالإضافة إلى أن المجرة هي انعكاس لضوء النجوم غير الساطعة عن طريق الشمس، والرعد يحدث بسبب اصطدام السحب. أما الكائنات الحية فقد نتجت عن الرطوبة والحرارة عند اختلاطهما بالتربة، ثم تولدت الفصائل الأخرى بعد ذلك بعضها من البعض الآخر.

تحكي الروايات القديمة أن أناكساجوراس تنبأ بسقوط نيزك في منطقة “أيجوس بوتاموي” وقد حدث. وعندما ذهب لقرية أوليمبيا جلس هناك متدثرًا بعباءة من جلد الأغنام متوقعًا أن يهطل المطر، أمطرت السماء بعدها بالفعل.

ولأن أهل أثينا آمنوا بألوهية الأجرام السماوية وخاصة الشمس، لم يطيقوا قوله بأن الشمس عبارة عن كتلة من النار وليست بإله.

وبناءًا على ذلك، فقد أدين بتهمة الإلحاد، واتهمه ثوكيديديس بمناصرة الفرس ومحاباتهم، ودافع عنه تلميذه بريكليس في المحكمة، ودفع غرامة مقابل تخفيف الحكم من الإعدام، فصدر الحكم بنفيه خارج أثينا. 

ويقال إنه عندما وصلته الأنباء بخبر إعدامه، علق قائلًا: “إن الطبيعة منذ أمد بعيد قضت بموت من أصدر الحكم وبموتي”.

في النهاية، اعتزل أناكساجوراس الحياة في مدينة لامبساكوس، وقضى نحبه هناك. وعندما سأله أهل البلدة عن شيء يود منهم أن يفعلوه ، قال: “أن تمنحوا الأطفال عطلة كل عام يمرحون خلالها ويلهون إبان الشهر الذي أفارق فيه، وظلت تلك العادة بين أهل البلدة لزمن طويل، وقد نقشوا على قبره:

                                       “هنا يرقد أناكساجوراس الذي اجتاز عالم السماوات بحثًا عن الحقيقة الأبدية”


 

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك