ياسمين صبري – سيدة المطر | مشهد معقد في واقع أكثر تعقيدًا | عمرو عبد الرزاق

ياسمين صبري – سيدة المطر | مشهد معقد في واقع أكثر تعقيدًا | عمرو عبد الرزاق

23 Nov 2020
عمرو عبد الرازق
مصر
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

نجحت الحالة المصرية فى اجتياز مشهد شديد التعقيد الأسبوع الماضي، هو حالة مصرية بامتياز.. بطلتاه ياسمين صبري: ممثلة مصرية ذات نصيب وافر من الشهرة والحُسن والمصاهرة، ومعها سيدة المطر: بائعة مصرية بسيطة بالشارع، جمع بينهما سوء التقدير وتأزم المجتمع في مشهد واحد دون قرار منهما!

مأساة المشهد المؤسف رغم نهايته الطيبة، في كونه يشرح كيفية قيام الحدث من لا شيء، إلا رغبة البعض في إظهار نفوسهم عبر استغلال شخوص آخرين!

الحالة المصرية اجتازت المشهد بطريقة محلية خالصة، دون حسم، ودون لوم، ودون عقاب، وبكثير من التمتمات والحسبنة والعبارات التي لا تشير لجهة محددة، لكنها تشعرك بأن هناك مأزومين ومظلومين وظالمين، دون تحديد هويتهم، ودون الإشارة لأي جرم فعله هؤلاء، أو أي خير فعله الآخرون.

حقيقة الحال أننا فى مصر نتعايش هكذا دائمًا، نمتدح بعضنا كثيًرا، نمتدح أخلاقنا كثيًرا، ونهجوها كثيرًا أيضًا، دون أدنى شعور بالتناقض.

لكننا نعيش مع بعضنا البعض فى ترابط اجتماعي مميز، لا ينفك منذ آلاف السنين.

تحت الرماد أشياء

مع ذلك، هناك تحت الرماد أشياء.. قبل 2011 لم أكن أعتقد لأغلب الوقت أن هناك مجتمعًا يتسيده الإسلاميون فكرًا ويملأونه انتشاًرا، يمكنه أن يحقق التناغم والتعايش والتقدم، وأن الابتسامات والصدقات والمشروعات الخيرية والعبارات المنمقة الفصيحة، في حقيقتها، لبنات بناء الشر وتقويته استعدادًا للحظة الحسم. كنت أتساءل: ألا يرى أهل الحكم كل هذه الضحكات الصفراء الخبيثة؟ أولا يدركون كل هذا التهتك في النسيج؟

وأنا من لم يطلع على وثيقة رسمية أمنية واحدة، بغير ما يسمح بنشره عبر صحيفة هنا أو مجلة هناك، أدرك تمامًا، أن هذا الترابط أسفله ماجما بركانية عائمة.. ثقب صغير سينفث كل اللهب خارجه، ويصهر الجميع في حممه!

لم يتأخر الأمر، وشاهدنا جميعًا منذ العام 2011 أنه حتى الهتاف الواحد، والذي روجوا له باعتباره وحدة اجتماعية “الشعب يريد إسقاط النظام” كان أكثر ما عبر عن انقسام المجتمع في نظرته لمشكلاته ولقضاياه وحتى لتطلعاته بتغيير النظام!

فئة تعلم ما تريد، تبحث عن تغيير النظام الاجتماعي والسياسي والإنساني، وبالأدق، محو الموجود واستبداله بما في خيالاتها.. وفئات أخرى تراوح معنى هتافاتها بين تغيير الحاكم الشخص، أو تغيير الحكومة والبرلمان ووجوه السلطة، وفئة أخرى تريد تغيير نظام اقتصادي كما تخيل لها، وأخرى تريد تحريك النظام بدرجة بسيطة بما يتيح لها حياة أقل تعقيدًا وأكثر يسرًا وكرامة.. وهكذا، كان خلف الهتاف الواحد ذي الأربع كلمات، خيالات وتوهمات لا نهائية بعدد الهاتفين وتشعبات أفكارهم!

كلنا أولاد تسعة | اللمبي زعيما لليسار والإنسان كيوم ولدته أمه | خالد البري

إشكاليات استعصت على الحل

هدأ الأمر بعد سنوات النزاع والدم والاقتتال بالشوارع، وممارسة الإرهاب، وهروب الفصيل الواهم بمحو الهوية إلى من يشبهونه فى هويته خارج البلاد.. ثم؟!

بقيت تحت السطح أشكال أخرى للنزاع الاجتماعي لم تنقضِ ولم تحل، تتعايش حينا وتتنابز أحيانًا.

حتى أنه في موقف بسيط نشاهده ونمارسه آلاف المرات كل يوم، استطاعت كاميرا تليفون أن تصعد بالنزاع المنطفئ نحو السطح مرة أخرى، وبطريقة شديدة السطحية والابتذال..

سيدة بسيطة تبيع الترمس بيوم ممطر، ربما تعاملنا معها واشترينا منها أمام مدارسنا صغارًا، ومنعنا أطفالنا عن الشراء من مثيلاتها عند الكبر، التقط لها أحدهم صورة عابرة تحت المطر، سرعان ما قارنتها مانشيتات صحفية وصفحات الإنترنت، بممثلة شابة ثرية بداخل طائرتها الخاصة!

ما الرابط المنطقي؟ لا شيء سوى التوقيت والمزامنة!

لنضع محمد حسان مكان ياسمين صبري!

الأمر ببساطة يمكن عقد أشباه له بمئات الأمثلة، لو سمحنا لأنفسنا بمد الخط على استقامته..

يمكن مثلًا وضع صورة للشيخ محمد حسان في سيارته الفارهة، المقيمة بالستة أصفار، ومقارنتها بشاب يجر عربة يد يبيع عليها التين الشوكي، يحثه الشيخ بخطبه على الزهد!

كذا يمكن عقد مقارنة بين صورة سويركي التوحيد والنور، صاحب قضية الجمع بين أكثر من أربع زوجات، وبجوارها صورة لخبر شاب ينتحر لأنه لم يجد ما يتزوج به!

أو عقد مقارنات أكثر بساطة بصورة لموظفين حكوميين يتناولون إفطارهم بمكاتبهم وتغمرهم السعادة والرضا، وأخرى لمشرد أو لسيدة تنقب عن رزقها بالقمامة!

لكن في حقيقة الحال، ليس هذا هو المراد، ما زال المزاج الشعبي يحمل جانبًا مختصًا بشيطنة الفنانين أكثر من غيرهم، بحكم سنوات الشحن الديني والطائفي والنعرة الأخلاقية الزائفة، على منابر الصحوة المزعومة..

رغم مئات الأمثلة صريحة الضرر على المجتمع وأفراده، إلا أنه يتجاهلها جميعًا، وينجذب بيسر نحو الممثل!

المقارنة ذهبت بتوجيه صحفي غير مسؤول على الفور للممثلة، التي لا دخل لها بسوء حال غيرها، ومقارنة حالها بحال السيدة بائعة الترمس تحت الأمطار. حقيقة الأمر ليس هناك أي وجه اعتراض منطقي على المشهد، فمن الطبيعى للغاية أن يكون هناك بالأرض منعمون وأن يكون بها محتاجون، وبنفس التوقيت وبنفس البقعة الجغرافية أو بغيرها، لا غرابة في الأمر، ولا يوجد عصر اختفى منه هذا المشهد! إلا أنها فرصة مواتية للبعض لإظهار المكبوت بالنفوس.

ستكونين أنت الحذاء.. أزمة الاقتصاد المصري في أغنية المهندس حسام | رواية صحفية في دقائق

الجانب المخفي من القصة

جانب من القضية اعتراض خفي على توزيع الأرزاق لو تحدثنا بالمفهوم الديني، فمما لا يقال علنًا أو يتردد سرًا، أو يروج مضمونًا بالأمثال الشعبية، يبرز وجود اعتراض على ما يقرره الله.. نعم يحدث هذا، فمثل شعبي مثل: يعطى الحلق للي بلا ودان! أو: إن جالك الأعمى كل عشاه!

هي أمثلة ترفض وتسخر من الأقدار، لكنها لا تودي بصاحبها للمهالك، فهي مجرد مأثورات منقولة، عنعنتها غامضة لا مالكًا أصيلًا لها، لكنها تؤدي الغرض، فكما يفحمك أحدهم بمصدر قداسة النص للانتصار لرأيه وسحق أفكارك فى مهدها، فالرد الشعبي يكون بتمييع الموروث، وإعطاء نص مقابل مغرق فى القدم، غير مقدس، لكنه بغير صاحب يمكنك الاقتصاص منه، يعبر عن بعض جوانب النفس غير الراضية عن القدر.

وحقيقة المشهد بهذه الرؤية، هو رفض فعلي لأن ترزق إحداهن دون مجهود مهني وبدني واضح تبدو آثاره على جسدها، أو دون امتلاكها لمقومات دينية وسمت أخلاقي ومظهري، مما تشربه المجتمع وآمن بكونه من أسباب الفوز بالدنيا والآخرة!

والسبب الآخر اقتصادي، وهو عدم اعتقاد البعض بأن مجالًا بسيط المجهود كثير التكريم والعائد، يستحق أن يضع صاحبه في مكانة الأثرياء، في حين أن أحدنا يشقى لسنوات ويكد دون أن يكتنز مالًا يذكر، بل ربما ساء به الحال حتى يهلك أو تنهار صحته، جراء مجهوده!

وهو أمر واقعي، ولكن صاحبه يتجاهل تمامًا أن السوق ومقتضياته ليست بالضرورة على مقاس ما آمن به وارتئاه مسارًا صالحًا لنفسه بالحياة أو بعد موته!

كما أنه يتجاهل الفوارق الفردية الجسدية والعقلية والشكلية بين البشر، وهي الفوارق التي يختار هو نفسه على قوانينها الأجمل من الفتيات ليتزوجها، أو تختار هي الأكثر ثراء ووسامة لزيجتها، مع تجاهل سمات إنسانية وعقلية وأخلاقية تتنحى جانبًا حين الاختيار!

فالحياة لا تسير بالضرورة وفق ما نؤمن أو ما نرتئيه، هناك قوانين أخرى لا شأن لها بمعتقدنا.

ورغم أن نفس المجتمع يعتقد بشدة، بأن قيراط حظ ولا فدان شطارة. وأيضًا يتحسر على ما فاته له الأب الميت كإرث بسيط لا يضعه ضمن الأثرياء كآخرين، ويرى أنه يمكن أن تعطيه الحظ وتلقيه بالبحر!

لكنه إن أفلتته الحظوظ لام من حصدوها، واتهمهم بالسطو وعدم الاستحقاق!

حل مصري خالص لصدفة مشحونة

الحقيقة أن الممثلة والبائعة جمعتهما صدفة طبيعتها تأزم النفوس، وشحنها بتعقيدات سياسية ودينية واجتماعية، وأيضا غياب القناعة الاجتماعية بأحقية هذا فى ماله أو ذاك فى مكانته.. كذلك شحن ديني طويل بأن هؤلاء المنعمين ليسوا في مكانتهم المناسبة، فهم ليسوا شيوخًا ولا فرسانًا كي يصبحوا نخبة المجتمع، بينما يتشرب المجتمع منذ عقود بأن سادة المجتمع، لابد وأن يكونوا أقرب لهيئة أشخاص القرون الوسطى. وهذا أبرز أسباب الحنق الاجتماعي الموجود!

لحسن الحظ انتهت الأزمة المفتعلة سريعًا أيضًا بحل مصري خالص، بتواصل من وراء الخيال بين شخصية فنية نزلت من طائرتها الخاصة للتو، وبائعة رقيقة الحال تفترش الرصيف، وتضع بضاعتها شديدة البساطة فوق دلو مقلوب، عبر مكالمة تليفونية تكفلت فيها بحل مشكلات البائعة!

هذا التقارب هو في رأيي أحد أوجه حسن التعامل في أزماتنا، وأحد جيناتنا الطيبة التي ما زلنا نتوارثها، ليس لكوننا طيبين أو أخيارًا بالضرورة، ولكن لأننا نجيد التصرف للخروج من المأزق لعدم التجاوز فيه، ولا نبحث عن مزيد من الإشعال بـ: وأنا مالي مثلًا!

احتواء اجتماعي مؤقت، يطفئ رغبات متقدة بالغضب. اللطيف فى الأمر أن طرفي الأزمة هما فقط من امتازا بسماحة وغاب عنهما التشاحن، رغم وضعهما قسرًا فى خانة الخصوم!

جين حضاري بسيط ما زلنا نحتفظ به وما زال يطفئ الكثير من النيران ويتصدى للكثير من العدائيات، لا يقضي على المشكلة ولا يحسم الجدل ولا يحل قضية، وحتما لم ولن يرضي النفوس المتوقة لمزيد من التصادم وبث الغضب، لكنه فقط يفض الاشتباك إلى حين تغير الأحوال!

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك