ناقد فني
“المخرج النجم”.. تركيبة عرفتها السينما المصرية بنماذج تُعد على الأصابع. لا تعني بالضرورة المخرج الأكثر مهارة أو صاحب البصمة الفنية، بل الذي يعرف تحديدًا ما تريده الشريحة الأعرض من الجمهور في مدة معينة، ويقدمه لها.
شئنا أو أبينا، صار بيتر ميمي مخرجًا نجمًا، يتصارع المنتجون على ضمّه لأعمالهم. يعرفه الجمهور – المتحمس منهم والمتربص – وينتظر جديده.. ظاهرة فرضت نفسها بما لها وما عليها، وأكثر النقاط في صالحه؛ كونه شابًا عصاميًا، ترك الطب ليبدأ مغامرة مهنية بلا وسائل مساعدة، في وسط فني صار مثل الجيتوهات بتفشي التوريث والشللية.
القرد بيتكلم، الهرم الرابع، الأب الروحي.. كلها أعمال لميمي لاقت قدرًا معقولًا من النجاح. يجمعها التأثر شكلًا وموضوعًا بتيمات الحركة والإثارة في السينما الأمريكية لدرجة الاقتباس والتطابق.. وهذا ما يقدمه بيتر لجمهوره المتعطش – بوعي أو بسطحية – لسينما مصرية تشبه العالمية.
النجاح الفعلي لـ بيتر ميمي لم يتحقق إلا بعد كلبش وحرب كرموز؛ أفضل أعماله بأي مقياس. العملان فجرا نجوميته تمامًا، ويتمتعان بالأسلوب نفسه في صناعة الأكشن والإثارة كأعماله السابقة.
لكنهما اختلفا – بجانب بطلهما أمير كرارة – في إيجاد سياق مصري مقنع لتدور به حكايات البطل الشعبي، بالتقنيات الحديثة والحبكات المثيرة، فتحول الطابع الأمريكي إلى مجرد إطار أو إجادة تقنية، لكن المضمون محلي أصيل؛ لذا صدقّه الجمهور وأقبل على هذين العملين بكثافة حطمت الأرقام القياسية.
جعلنا بيتر ميمى نظن أن ما سبق كان بداية لمرحلة من النضج، لكن كازابلانكا – فيلمه الأحدث – أظهره وكأنه لم يستوعب السبب الحقيقي لنجاح حرب كرموز وكلبش. عاد مجددًا لأكبر عيوب أعماله التي سبقتهما، والذي لم يكن الاقتباس بالمناسبة، بل التغريب بالمعنى الأشمل.
أفلام الويسترن على الطريقة المصرية .. من شمس الزناتي لـ”حرب كرموز”
القصة عن ثلاثة أصدقاء يعملون بالسطو على السفن في أعالي البحار، تكلفهم عصابة خطرة بتهريب سيارة على متن إحدى السفن. بعد نجاح المهمة تكتشف العصابة ضياع شحنة الماس المخبأة في السيارة، معتقدين أن أبطالنا تآمروا لاختلاسها، ومن هنا تبدأ المواجهات لتتبع أثر شحنة الماس الضائعة وتحديد الطرف المتآمر بين الثلاثة.
عمر المُر – أمير كرارة – هو البطل ومركز الأحداث الذي يحاول تأمين مستقبل شريف لشقيقه الأصغر بعيدًا عن طريق الإجرام. الشخصية لم تساعد كرارة في إبراز جديد في قدراته التمثيلية؛ فهو مازال “باشا مصر” فقط مع تغيير النشاط.
لمسات عرابي – عمرو عبد الجليل – الكوميدية كانت فاكهة الفيلم. رشيد – إياد نصار – كان الشخصية الأفضل في تصميمها، وجسدها نصار بصورة مقبولة.
يفتتح الفيلم برسومات تشرح تاريخا معينا للشخصيات، يصاحبها تعليق صوتي من طرف خارجي، يمتد دوره بين حين وآخر على مدار زمن الفيلم. بدت الافتتاحية مبشرة بفيلم جيد، متأثرة بأسلوب أفلام أمريكية، أقربها Sin City.
فيلم “الممر”.. شريف عرفة وضع الفن في كفة والذخيرة في الكفة الأخرى | أمجد جمال
مشكلة التغريب تظهر هنا في التأسيس للدراما، وتشمل البيئة أو العالم الذي تدور به الأحداث، مدينة الإسكندرية التي لم توجد أمارة عن كونها الإسكندرية فعلًا سوى لهجة البطل الذي يفتح ما قبل آخر الفعل (شَرَبت، سَمَعت، إلخ). غير ذلك كانت مجرد مدينة ساحلية تبدو أقرب لبلد أو مجتمع آخر.
يمتد التغريب إلى رسم شخصيات كازابلانكا. برغم إتقانهم للغة العامية بمستواها السوقي، لم يظهروا وكأنهم ينتمون لمجتمع مصري نعرفه، بما في ذلك عوالم الإجرام والبلطجة.
مستوى ذكاء الشخصيات في التخطيط والتآمر والمناظرات الحوارية فاق كثيرًا مستواهم التعليمي والمعرفي الذي يفترض الفيلم كونه متدنيًا. شكل المشاجرات انتمى لأفلام العصابات الهوليوودية في الأربعينيات لا الحارة المصرية الشعبية في الألفية. حتى نوعية نشاطهم الإجرامي – القرصنة في أعالي البحار – لم يبد حقيقيًا وسط مجتمع يمثل فيه البحر للفقراء وسيلة للهروب لا مهنة مربحة بهذه الخطورة.
أتفهم ألا يريد صانع الفيلم الالتزام بالواقع، بل ورغبته فيما هو أبعد من ذلك، كأن يصنع فيلمًا أجنبيًا ينطق بالعربية، وهو حقه – نظريًا – لكن شتان بين الواقعية والحقيقة، والأخيرة هي العنصر المفقود.
من دفاتر صلاح أبو سيف.. الواقعية والرقابة والجنس والنقاد | أمجد جمال
مشكلة التغريب الفعلية في كازابلانكا أنه استُخدم كمنهج استباقي لتمرير كل أنواع التلفيق واللا معقولية في بقية عناصر القصة، سواء في ميزان قوي العلاقات أو نقاط الحبكة أو دوافع الشخصيات.
ففي عالم غريب لا نعرفه، ومع شخصيات لا نفهمها، يكون علينا تقبل كل ما يلقيه علينا السيناريو الذي كتبه هشام هلال طالما أن بيتر ميمي يطعمه بجرعات متواصلة من مشاهد الأكشن والمطاردات متقنة الصنع، وقد صارت الأخيرة وسيلة ابتزاز عقلي للجمهور في معظم الأفلام الآن.
بعض الأمثلة على خلل ولا معقولية القصة تتجلى في أربع تفاصيل محورية:
أولًا: ما حاجة عصابات بتلك السطوة التي أظهرها الفيلم، حيث المال والسلاح والرجال والنفوذ، كي يستعينوا بثلاثة مجرمين شعبيين لا يدينون بالولاء الكامل لهم، مهما بلغت مهاراتهم الإجرامية؟!
ثانيًا: بعد تحديد العصابة لسارق الماس، لماذا لم يتخذوا خطوات مباشرة ضده دون انتظار سنوات للتحالف مع زميليه؟! لم تكن الحجج مقنعة.
ثالثًا: كان لدى عرابي أكثر من فرصة للتواصل مع عمر داخل السجن وخارجه، وشرح طبيعة ما فعله لتحاشي الصدام المفتعل معه، وكان بحاجة لذلك، ولو اتخذ خطوة جادة نحو الأمر لانتهت معظم صراعات الفيلم قبل أن تبدأ.
رابعًا: في المواجهة بين عمر وشقيقه زكريا، لماذا اكتفى الأخير بترديد خطبة عاطفية عن دور عرابي في حياته، ولم يشرح لعمر المزيد عن حقيقة ما فعله عرابي في حفظ حقوقه لإيقاف الصدام بينهما؟!
الحبكة التي صنعها بيتر ميمي وهشام هلال ملفقة؛ كونها غير قائمة على دوافع منطقية لأطراف الصراع. هذا التلفيق يمتد مع سفرهم للمغرب وزرع مزيد من العناصر الدرامية الملفقة، أبرزها شخصية فيفيا – غادة عادل – وهي فتاة مصرية تعيش في الدار البيضاء. لماذا هذا المكان تحديدًا؟! أغلب الظن ليكون كازابلانكا عنوان الفيلم؛ تأثرًا صبيانيًا بكلاسيكية المخرج الأمريكي مايكل كيرتيز في الأربعينيات. أو أن التصوير في المغرب أقل تكلفة من أوروبا!
أفضل طرق اختيار عنوان لفيلمك، وأنجحها في تاريخ السينما | أمجد جمال | دقائق.نت
فيفيا تلقي بجمالها وجاذبيتها عرض الحائط لتمتهن أغرب مهنة ممكنة لفتاة بمواصفاتها: النصب والسرقة وفنون القتال! مشكلة الشخصية لم تقتصر على زيف سماتها، لكنها تشمل الجانب الرومانسي الذي كان مفترضًا أن تقوده مع عمر. ظهر شديد التحفظ، ولم يتجاوز حيز النظرات وجمل الغزل المعادة، بالإضافة لبعض مواقف الجدعنة في المعارك؛ لأنها فتاة بمائة رجل. وبالفعل، لم يكن الفيلم ليتأثر لو كانت الشخصية لممثل رجل.
اللمسات الكوميدية في الفيلم توزعت على بعض دعابات عمرو عبد الجليل. كانت جيدة وغير مقحمة ومناسبة لشخصية عرابي. وهناك الظهور الشرفي الباهت للنجمين بيومي فؤاد وأحمد فهمي. ظهور باهت لسببين.
أولًا، تكرر الظهور الشرفي لنفس الاسمين وبنفس الأسلوب في عدة أعمال سينمائية وتلفزيونية خلال الأعوام السابقة، ما أفقد الإيفيه طابع المفاجأة.
ثانيًا، لم تكن اللحظات التي ظهرا فيها مهيئة لوصلات هزلية، خاصة ظهور أحمد فهمي بشخصية المكسيكي.
فهمي فعلها موسم العيد الماضي بظهور مماثل في فيلم ليلة هنا وسرور، وكان الظهور موفقًا لطبيعة الفيلم الكوميدية، لكن اختيار بيتر ميمي للضيوف في كازابلانكا بدا عشوائيًا، وكأنه لا يفهم حقًا طبيعة الفيلم الذي يصوره.
هل كانت مصر فعلًا ثاني دول العالم معرفة بالسينما؟ | أمجد جمال
أحمد زكي.. كيف استحق اعتذار روبرت دينيرو عن “زوجة رجل مهم”؟ | أمجد جمال