ناقد فني
مع تتابع عرض مسلسل نمرة اتنين على منصة شاهد بنظام حلقة أسبوعيًا، بات واضحا التذبذب في مستوى الحلقات. القيمة متأرجحة بشكل ملحوظ. وهو تذبذب مفهوم؛ لأن المشرفين على صناعة المسلسل لم يكتفوا بجعل الحلقات منفصلة متصلة وفق الفورمات الذي اعتدناه، بل اعتمدوا تغيير الطاقم الإبداعي نفسه، ليكون لكل حلقة مخرجها ومؤلفها بجانب نجومها.
بدا أن تلك العمليات الإبداعية الموازية كانت تفتقد لبعض التنسيق والترابط والنمط الفني المشترك. والمحصلة مجموعة أفلام قصيرة أكثر منها دراما منفصلة متصلة.
هل هذا عيب؟ ليس بالضرورة لكن من الظلم تعميم أحكامنا عليها تحت مسمى مسلسل نمرة اتنين لمجرد أن كلها تطرح فكرة الحب الثاني أو للدقة “الحب الآخر”.
الفيلم أو الحلقة الرابعة “فرق توقيت” أجبرتني على التوقف عندها تحديدًا.
من بطولة ماجد الكدواني – شيرين رضا وتأليف وائل حمدي، وإخراج هادي الباجوري،
تدور أحداث فرق توقيت حول ممثلة مشهورة تستوقف سيارة أوبر في منتصف الليل في طريقها للمطار هربًا من صدمة تعرضها للخيانة من زوجها.
لكن في الطريق يحدث نوع من الألفة بينها وبين صلاح السائق، فيظهر بعض التلميح أو الإيهام بأنهما ربما كانا زملاء دراسة في الماضي البعيد.
النص الذي كتبه وائل حمدي يستثمر في الأبعاد الدرامية الجديدة لمهنة سائق أوبر التي باتت تختلف عن دراما سائقي التاكسي.
أبرز خلاف يتضح هنا أن سائق أوبر لا ينتمي للطبقة العاملة التقليدية، وبالتالي تزداد فرص تآلفه الثقافي والاجتماعي مع أبناء البرجوازية.
صلاح – وهو يسمع نفس موسيقاهم ويستوعب الفن الذي يقدمونه – يفهم “التويست” ويتعمد إفلات كلمات بالإنجليزية ليلفت نظر بعض ركابه إلى أنه “ابن ناس” تعلم في مدارس مصر الجديدة والتحق بكلية الصيدلية ومارس المهنة لفترة قبل أن يصفي أملاكه لتسديد نفقات علاج زوجته المتوفاة، أي إنه ليس السائق التقليدي.
أحمد زكي.. كيف استحق اعتذار روبرت دينيرو عن “زوجة رجل مهم”؟ | أمجد جمال
مفهوم “الحب الآخر” يستدعي في ذهنك فورًا نزوات الخيانة، أو نزوات تجاوز الحب الأساسي. هذا بالفعل ما تلف وتدور حوله معظم حلقات مسلسل نمرة اتنين. لكن “فرق توقيت” ابتعد بعض الخطوات عن تلك الأفكار البديهية.
هو لا يقدم شخصيات تحت إغواء الخيانة أو عطش التجاوز بقدر ما يقدم شخصيات قررت أن تتأمل ماضيها بحنين لا يخلو من النقد. شخصيات تعيد النبش في الفرص الضائعة وتتعلم من دروسها.
كذلك يستوعب نص وائل حمدي في فرق توقيت حتمية القالب الرومانسي الذي تفرضه تيمة “الحب الآخر” فلم يدخل نفسه في متاهة القالب الاجتماعي مثل رفقائه ببقية حلقات مسلسل نمرة اتنين.
استحضار الرومانسية هنا يبدأ من فكرة خارج المتوقع ويغذيها بالتفاصيل، دون أن يفقدها بساطتها المسؤولة عن صناعة الأجواء الرومانسية.
وكلمة السر الأولى في جعل الحب يبدو رومانسيًا هو ألا يكون حبًا مُشبَعًا، أو بعبارة نيكولاس راي الخالدة: “أفضل مشاهد الحب هي التي تكون عن شيء آخر غير الحب”.
هذا الشيء الآخر يمكن ملاحظته في فرق توقيت بأصغر التفاصيل تطورًا وتراكمًا.
نلاحظه حين ينقذ البطل نجمته المشهورة من فخ المعجبين في محطة البنزين، ونلاحظه حين تقرر البطلة استكمال الرحلة مع البطل رغم تعطل السيارة وتلغي موعدها في المعادي لتظل معه في السيارة.
نلاحظه حين يهاتف البطل ابنته ليبلغها أنه سيتأخر حتى الصباح رغم أنه ليس بحاجة لكل هذا التأخير.
نلاحظه حين تبرر البطلة تهور البطل في القيادة وهو على وشك الاصطدام بسيارة أخرى وتواسيه بدلًا من توبيخه.
نلاحظه حين يستاء البطل بمجرد سماع أن شارع الميرغني قد اقترب، ما يعني أن شارع صلاح سالم هو الآخر اقترب، ومن ثم المطار، ومن ثم الوداع.
تلك هي اللفتات التي تصنع الرومانسية، لا مشاهد بحبك وبتحبيني. ولذلك تفشل أفلامنا الرومانسية غالبًا بينما ينجح فرق توقيت.
سمير سيف.. 7 دروس في تصميم المشهد السينمائي | أمجد جمال
معظم الأعمال التي كتبها وائل حمدي مشبوهة باستخدام كارت النوستالجيا.
عندما سمعت “مواعداني” لمحمد فؤاد وهي تفتتح الأحداث تخوفت أن ينزلق في هذا الطريق، لكنه خالف توقعاتي للأفضل في فرق توقيت.
وأتى توظيف الأغاني القديمة ليخدم فكرة أعم وأشمل؛ نوستالجبا أغاني الكاسيت و”بسكوت بيمبو” التي هي وسيلة مرئية للتلاقي والألفة بين أبناء جيل معين قد لا تعني أي شيء.
ومع توالي الأحداث يخبرنا فرق توقيت أن ما يجمعنا حقا ليس أننا سمعنا نفس الأغاني، بل إننا عشنا تجارب إنسانية مشابهة لدرجة قد تجعلنا نتوهم أن فلان أو علان شاركونا تلك التجارب بشكل فعلي، وسواء كانت الذكريات وهما أو حقيقة فهذا لا ينقص من صدق إحساس الألفة معهم.
ظهر الممثلون بأفضل حالة يمكن أن نتذكرها لهم.
نظرات ماجد الكدواني وهو يودع راكبته في المطار، وشيرين رضا وهي تتغير على مدار الحلقة من شخصية عصبية غاضبة لشخصية بشوشة ورقيقة.
10 اختيارات تمثيلية رفضها الجمهور ثم أثبتت صحتها | حاتم منصور
أقوى مهارة يتمتع بها هادي الباجوري كمخرج هو حساسيته لعنصر الزمن السينمائي؛ أي طريقة ترسيم زمن الأحداث الفعلي الذي قد يكون أياما أو يوما داخل زمن فيلم مدته ساعتان أو حلقة مدتها ساعة.
يفعلها الباجوري بخفة يد دون أن يشعرنا بخلل التكثيف أو الاختصار بل تسير الأمور بمنتهى التلقائية.. ظهرت نفس المهارة في فيلم “الضيف” وها هي تتكرر في فرق توقيت.. فالبطلة تقول أن المتبقي على طائرتها ٧ ساعات منذ ركوبها أوبر. كيف تم تكثيف السبع ساعات داخل حلقة لا تتجاوز الساعة بتلك الوتيرة الانسيابية؟
كذلك ظهر تميز هادي الباجوري واضحًا في طريقة عرضه لجغرافيا ومعالم القاهرة بشكل حقيقي. عادة لا يهتم المخرجون المصريون بإظهار السيارات تسير في شوارع لها علاقة بوجهتها الفعلية، لكننا رأينا في “فرق توقيت” شوارع نعرفها ونفهم سبب مرور السيارات بها.
نعرف كورنيش المعادي، ونفهم أن يتم غلق كوبري أكتوبر من حين لآخر، ولدينا علم بحدوث تغيرات جوهرية في شوارع مصر الجديدة تجعل سكانها أنفسهم يسألون عن المخارج والمداخل الجديدة.
ما سبق يوضح اهتمام مخرج فرق توقيت بأدق التفاصيل وبمصداقية العرض، وربما ساعده في ذلك التصوير ليلًا بعيدًا عن الزحام والزخم.
لم يقتصر الأمر على الدقة الجغرافية، بل الطابع الرومانسي للقاهرة كان حاضرًا. وهذا نادر.
وصلت هذه الرومانسية لذروتها حين سمعنا أغنية “الزمن” لعمرو دياب على مشاهد من سماء القاهرة في ساعات مغادرة الظلام وبداية شروق الشمس، وكأنه الدليل البصري على تغير “الزمن” بجانب التوظيف الدرامي البارع للأغنية، جعلنا وكأننا نسمعها للمرة الأولى.