ناقد فني
“أعتقد أنه يجب التصويت على الأفلام التي تفوز بجوائز الأوسكار بعد مرور خمسة أعوام من صدورها. تلك هي المدة الكافية بالنسبة لي لتقرير إن كان الفيلم عظيما بحق”.. تغريدة كتبها الممثل الأمريكي سيث روجن منذ أيام، ليثير جدلًا بين عشاق السينما عمومًا، ومتابعيه على تويتر بصفة خاصة.
البعض تناول التغريدة في إطار ساخر؛ كونها صادرة من كوميديان، لكن آخرين تناولوها بجدية، فتحولت التعليقات إلى ساحة لتعديد الأمثلة على أفلام فازت بجائزة الأوسكار قبل سنوات، ثم نُسيت، وبات يُنظر لها بتقدير أقل، مقابل أفلام خسرت الجائزة، لكنها ما زالت أكثر حضورًا وتأثيرًا حتى اليوم.
خلود الفن أو بقاؤه في الذاكرة الجمعية كان ولا يزال أحد أقوى المعايير لتقييم الأعمال الفنية، وتحديد الفوارق بين السيء والجيد والعظيم والكلاسيكي. لكن هل هذا المعيار كافٍ؟
في كتابه “الأفلام العظيمة: دراسة نقدية في السينما الكلاسيكية” أشار الكاتب فيليب جيليت إلى خمس ثغرات رئيسية في نظرية الخلود تلك.
تفترض النظرية أن مرور الوقت ينتج الانطباع بجودة العمل، لكنها تتجاهل أن بعض الأعمال قد تخلف طابعًا ثقافيًا تم رفضه أو تجاوزه أو نقده.
النازيون دفنوا الأعمال الفنية للأجناس “الأقل تفوقًا”، وبالمثل دفن الغرب أعمال النازيين، وبذلك قد لا تخلد أعمال فنية لأسباب سلطوية، بعيدة عن مستواها الفني.
نظرية الزمن تتجاهل التقلبات والظروف غير المتوقعة التي تتحدى خلود الفن، وهي عوامل تجعل رؤيتنا للماضي مشوهة. منها الفيزيقي كالحروب والكوارث الطبيعية، والتجريف، ومدى اجتهاد وحماس العاملين على الأرشفة، كل ذلك قد يتحكم فيما يصل إلينا أو يفوتنا.
“الدراما الإغريقية الكلاسيكية لم يصل منها إلا مسرحيات معدودة، وما أضحك الآشوريين لم يتم تسجيله صوتيًا؛ فطبيعة الكوميديا هي المشاغبة، والمشاغبة لا يتم تدوينها بسهولة. جيرارد مانلي هوبكينز وبرامز كانا يبالغان في نقد ذاتهما، لدرجة تدمير بعض أعمالهما وفقًا لمعيار الزمن.
الجهل وسوء الإدارة قد يؤدي بالأعمال الفنية للفناء أو الشتات بعد موت مبدعها. إنهاك الزمن لا يؤثر فقط على العمل السيء، بل يمكنه كنس أي شيء في طريقه”.
لا توجد مدة زمنية محددة للتقييم. التفاوت الزمني مفهوم نسبي وضبابي
“في حساب دانتي، هناك 700 عام، وهي مدة طويلة بما فيه الكفاية، (…) لكن هل هناك مدة محددة كافية للحكم؟ هل يمكن لأوبرا بيتر جراميز الانضمام بعد مرور ستين عامًا مثلا؟ وما مصير الفنانين الأحياء من ذلك؟ هل فرضت عليهم لعنة النسيان الثقافي حتى تعترف بهم الأجيال الجديدة؟”.
كما يعطي فيليب جيليت مثالًا بالفنان التشكيلي والنحات آندي جولدسوورثي، الذي يقوم فنه على تصميم وتنفيذ مواقع فنية كاملة باستخدام مواد سريعة الزوال وقابلة للتعرية، فكيف سينطبق عليه معيار الخلود؟
وفي عصر المعلومات حيث أصبح من السهل نشر الأفكار والحفاظ عليها، هل تتقلص المدة الزمنية لتحديد الأعمال العظيمة؟ يتساءل جيليت.
يذكر فيليب جيليت عدة عوامل خارجية تستدعي الأعمال الفنية في أزمنة مختلفة أو تستبعدها، منها ترويجها لقضايا تحولت إلى معاصرة، أو بسبب ظهور أجيال جديدة من النقاد بذائقة مختلفة، أو حتى لطبيعة الوسائط والتوافر التقني للأعمال الفنية.
أعطى جيليت مثالًا بالموسيقار النمساوي جوستاف مالر، فقد عاودت مؤلفاته الرواج بعد نصف قرن من وفاته، بعد ظهور أجهزة تسجيل تستطيع التعامل مع المقطوعات بالغة الطول “زمنيًا”.
يعترف جيليت بأن مرور الزمن يدفن الأعمال التي نجحت لكونها مجرد “موضة”، لكنه يخشى أن الميل للرجوع دائمًا للأعمال القديمة المجربة ذات الثقة، يكرس لسلوك محافظ في تلقي الفنون، وهو سلوك رافض للتجريب والغرابة والمروق.
أهم أفلام 2019.. 20 فيلمًا ينتظرها الجمهور بحماس
أسلوب فيليب جيليت انصب على الإشارة لوجود أعمال عظيمة معرضة للنسيان بوسائل خارجية، لكنه لم يتعرض للأعمال العظيمة التي اكتسبت تقديرها مع الوقت فعلًا.
لم ينف جيليت أنه ما من عمل فني استطاع الصمود في وجه الزمن إلا لو كان عظيمًا بالفعل، أو ما زال يتمتع بحد معين من عناصر الدهشة للمتلقي، حتى لو كان هناك الأعظم الذي توارى لأسباب غير متعلقة بالفن. فماذا لو أدخلنا تعديلًا لغويًا بسيطًا للافتراض، ليتحول من “الأفضل” إلى “الأفضل مما وصلنا”؟
حجة الخلود لن تكون خاطئة لو افترضنا أن كل الأعمال ستلقى تكافؤ في فرص الأرشفة والتوافر التقني والفيزيقي.
الحجج التي ساقها جيليت ستكون أكثر قطعية في كتاب عن الفنون عمومًا، لكن النص مدون داخل كتاب عن السينما، والسينما لها وضع خاص في جدل كهذا، كونها واحدة من أحدث الفنون، وأقربها زمنيًا لعصر العولمة والقفزة الرقمية والمعلوماتية، ما يزيد فرص تغلبها على عوامل التجريف التي ذكرها.
على العكس، التقدم زمنيًا يضعنا أمام حلول لترميم ما تم تجريفه، وتوفير ما تم نسيانه، وتحسين ظروف المشاهدة.
بعض ما ذكره فيليب جيليت في ثغرة الملائمة الثقافية والسياسية صحيح، لكنه تجاهل أعمالًا خلدت رغم عدم ملائمتها ثقافيًا، منها بعض أعمال “د. و. جريفيث” نظرًا لحيثيتها فنيًا، وهي التي قامت على العنصرية المرفوضة الآن، وكثير من أفلام هوليوود القديمة التي قدمت أصحاب البشرة السوداء دائمًا في مهن الخدم، وسخرت من المثليين، وسلعت المرأة، حتى مقطوعات الموسيقى التي ارتبطت بسياق عنصري كمقطوعات فاجنر، هناك أعمال منعتها حكومات وأجازتها أخرى، وأعمال حجبت وقت صدورها وفرضت نفسها لاحقًا، ولا زالت خالدة وعظيمة ومؤثرة.
في ثغرة تشجيع السلوك المحافظ، تجاهل الكاتب أن كل عمل فني عظيم أو كلاسيكي كان في وقته ثائرًا على ما قبله.
أكثر الحجج وجاهة هي الثالثة. أتفهم النبرة البلاغية في السؤال عن المدة القياسية للحكم. السؤال استعارة عن ميوعة المنطق، لكننا نتحدث بالنهاية عن أمور كالفن والذائقة، لا يمكن ضبطها بمعادلة رياضية أو بمنطق صارم. سيبقى جانب الغموض والخيال والشك الذي يحفظ للفن سحره.
لنفترض أن الزمن المقصود ليس رقميًا بل ظرفيًا، فليكن الحديث عن عمل فني مر عليه من الوقت القليل بما يكفي ليبتعد عن تصدر المانشيتات والإعلانات وقوائم المرشحين للجوائز، وظل محتفظًا بقيمته وحضوره في الذاكرة، ألا يكفي لاعتباره عملًا عظيمًا؟
ربما يُنسى مع مزيد من الوقت. نعم، ولا شيء أكيد في الفن، لكن حين تتفاعل اللغة بمصطلح كالكلاسيكية المعاصرةModern Classic، لتحل معضلة ثقافية بربط الجودة مع الظرف الزمني، فهي تؤكد على وجود الزمن في العقل الجمعي لمستخدمي اللغة كأحد المعايير الرئيسية في الحكم. ربما ليس الوحيد أو الأشمل أو الأصح، لكنه فاعل ومحسوس أكثر من غيره من العوامل.
مولد نجمة ومخرج وأوسكارات أيضًا في A STAR IS BORN
رامي مالك يعزف منفردًا في BOHEMIAN RHAPSODY
10 فوائد في الذهاب إلى السينما وحيدًا
أكثر المقولات إلهامًا حول صناعة الأفلام