معركة تندلع بشكل دوري كل عام بين اتجاهات دينية تؤيد الاحتفال بذكرى مولد النبي محمد أو تعارضه، تبدأ بتحريم الاحتفال من الأساس باعتباره “بدعة”، وتصل إلى الشك في صحة تاريخ المناسبة ذاتها.
عرف العالم الإسلامي الاحتفال بهذه الذكرى عبر مصر. بعدما استتب للخليفة الفاطمي المعز لدين الله حُكم البلاد، أراد التقرب من الناس، فابتدع فكرة الاحتفال بالمناسبات الدينية في الشوارع والميادين، لتكون أشبه بالأعياد القومية التي يتآلف حولها الشعب. وبالفعل كان في يوم 12 من ربيع الأول يأمر بتوزيع الأموال على السكان، وتنتشر مواكب عريضة لجنوده بالشوارع يعزفون بالطبول والأبواق، الأمر الذي لاقى استحسان الجماهير، فثبتت العادة من يومها حتى الآن، إذا ما استثنينا بعد التوقفات المحدودة في أواخر عهد الفاطميين وطوال حُكم الأيوبيين والمماليك. ولم نعرف على وجه اليقين لماذا اختاروا يوم الـ 12 بالتحديد للاحتفال بهذه الذكرى، رغم الخلافات الشاسعة بشأن هذا التاريخ.
عاشوراء السني.. ولغز انتصار موسى على فرعون
أجمعت كُتب التاريخ على أن نبي الإسلام وُلد في عام الفيل (571م)، في أحد أيام الاثنين، نقلًا عما أورده صحيح مسلم على لسان الرسول نفسه: “ذاك يوم ولدت فيه، ويوم أنزل عليّ فيه”. عدا هاتين المعلومتين، فإن بقية أرقام التاريخ النبوي ملبدة بالضباب عسيرة على التدقيق.
ينفرد المؤرِّخ الزبير بن بكار ضمن رواية شاذة عن مولد النبي بأن أمه “حملت به في أيام التشريق في شعب أبي طالب عند الجمرة الوسطى، وَوُلد بمكة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان”، وهو رأي يستند على مبالغة صاحبه في وضع استنتاجه الخاص على حقائق التاريخ.
زعم ابن بكار أنه طالما أن النبي محمد كان قد أتمَّ الأربعين لحظة نزول الوحي، فيجب أن يكون وُلد في رمضان أيضًا، وهو رأي رد عليه المتمسكون بربيع الأول بأن إرهاصات النبوة مسَّت الرسول فور تمامه الأربعين بشهر الربيع وكانت الرؤية الصالحة، وليس نزول الوحي الذي تلقاه في رمضان.
عدا رواية ابن بكار، أكدت معظم المرويات أن شهر الميلاد كان ربيع الأول، بعضهم لجأ استند إلى الطقس الأمثل لبدء النبوة، مثل المؤرخ الشامي الصالحي في كتابه “سُبُل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد”. ربيع الأول “أعدل الفصول، ليله ونهاره معتدلان بين الحر والبرد، ونسيمه معتدل بين اليبوسة والرطوبة” وكل هذه الأمور تعين النبي على حُسن أداء رسالته.
تايم لاين في دقائق: اليهود وبنو هاشم.. المحاكاة التاريخية من كيبور إلى عاشوراء
بعيدًا عن هذا “التكييف المناخي” الذي أوردناه، تستفيض الروايات التاريخية في تحديد مواعيد عدة ليوم ولادة النبي محمد، يمكن تصفيتها جميعًا إلى ستة أقوال مُعتبرة متباينة لم يستطع أحد القطع بصحة أيها، وإن جرت محاولات عدة لتقوية أحدها دون الآخر في إطار اجتهادي بحت لا يقطع رأيًا.
2 من ربيع الأول، حكى به ابن عبد البر بكتابه “الاستيعاب”، بالإضافة إلى ما أورده ابن سعد عن طريق الواقدي، الذي نقل هذه المعلومة عن أبي معشر نجيح بن عبدالرحمن المدني، وإن كان الكثير من علماء الحديث يتشككون عند النقل عن الواقدي ويعتبرونه “كثير الكذب”.
8 من ربيع الأول، رجَّحه أبو الخطاب بن دحية في كتابه: “التنوير في مولد البشر النذير”، وأتى على ذِكره ابن عبد البر وابن كثير الذي اعتبره “أثبت الآراء”، كما رواه الخوارزمي وابن حزم ومالك في رواية عن محمّد بن جبير بن مطعم بسند صحيح، اعتبره الألباني، أدقَّ ما روي بهذه المسألة من حيث السند، قائلًا عن بقية أقاويل تاريخ الولادة إن “كلها معلقة – بدون أسانيد – يمكن النظر فيها ووزنها بميزان علم مصطلح الحديث؛ إلا قول: إنه في الثامن من ربيع الأول، فإنه رواه مالك وغيره بالسند الصحيح عن محمد بن جبير بن مطعم، وهو تابعي جليل”.
9 من ربيع الأول الموافق لـ 22 أبريل/ نيسان، وهو لم تذكره أي مروية تاريخية وإنما جرى استنتاجه بناءً على دراسة فلكية دقيقة قام بها محمود باشا الفلكي والعالم الهندي محمد سليمان المنصورفورى، وأخذ بها بعض رواة السيرة كالمباركفوريُّ صاحب “الرحيق المختوم”، ومحمد الخضري صاحب “نور اليقين في سيرة سيد المرسلين”.
10 من ربيع الأول، وهو ما رواه ابن عساكر عن أبي جعفر الباقر، بقوله “وُلد الرسول يوم الاثنين لعشر ليالٍ خلون من ربيع الأول، وكان قدوم أصحاب الفيل قبل ذلك في النصف من المحرم”.
12 من ربيع الأول، وهو الرأي الأكثر شيوعًا، نصت عليه أقدم كتب السيرة لابن هشام، بالإضافة لما حكاه معظم كتاب التاريخ الإسلامي مثل الذهبي والطبري والبيهقي والمقريزي وغيرهم، استنادًا لمقولة ابن عباس “وُلد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وفيه بُعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجَرَ، وفيه مات”.
17 من ربيع الأول، وهو الموعد الذي حدّده الشيعة للاحتفال بهذه المناسبة، استنادًا لبعض الأقاويل المنسوبة للأئمة في كتبهم، ما حدا بهم لاتباعهم وفقًا لقاعدتهم “وأهل البيت أدرى بالذي فيه”.
بعض المعاصرين دعا إلى عدم الانشغال بتحديد اليوم، مثل محمد الغزالي، الذي قال بكتابه “فقه السيرة” إن “تحديد يوم الميلاد لا يرتبط به من الناحية الإسلامية شيء ذو بال، فالأحفال التي تقام لهذه المناسبة تقليد دنيوي لا صلة له بالشريعة”!