في صيف 1999، استيقظ الموزع الموسيقي طارق مدكور على اتصال من المنتج محسن جابر رئيس شركة “عالم الفن”، بعدما استمع الأخير للنسخة النهائية من ألبوم “قمرين” لعمرو دياب.
جابر أخبر مدكور (موزع ومكسير الألبوم) بوجود خطأ صوتي في الأغنية رقم 2 (أنا).. “هناك شيء غريب يحدث في الدقيقة 00:45.” لكن مدكور نفى وجود خطأ، وأخذ يشرح لجابر أنه استخدم تقنية جديدة تعرف بالأوتوتيون (Autotune)، وأن الحكاية تتلخص في “إيفيه” موسيقي جديد.
لم يتوقع أي من أطراف الحديث أن هذا “الإيفيه” الموسيقي الذي كاد يتسبب في تأجيل طبع نسخ قمرين وتوزيعها في الأسواق، صار بعد 20 عامًا لاعبًا رئيسيًا في صناعة “الهيتات” الموسيقية.
الأوتوتيون متعدد الأغراض. يستخدمه من لا يجيدون الغناء كمطربي المهرجانات، ويستخدمه مطربو البوب بنسب قليلة في زخرفة التوزيعات، ويستخدمه تيار موسيقى الراب الشعبي أو التراب كما يسميهم البعض. وهؤلاء لا يستخدمون الأوتوتيون بغرض مساعد أو زخرفي، بل هو عنصر جوهري في أغانيهم.
الأوتوتيون ابن شرعي للموسيقى المحوسبة. استفاد من فكرة التعيين MIDI Sampling؛ أي أخذ عينة من صوت أي آلة، والتحكم في نغمات عزفها عن طريق لوحة مفاتيح أو تطبيقات إلكترونية، ثم الاستعانة بها في التوزيعات الموسيقية دون الحاجة لعازف.
تطورت الفكرة حين سأل علماء الصوتيات أنفسهم لم لا نطبق نفس المبدأ على الفوكال (صوت الإنسان)، وبعينة بسيطة من صوت بشري يمكننا أن نجعله يطوف أعلى وأسفل السلم الموسيقي، أو نصلح النشاذ بضبط صوته على مقام موسيقي معين لا يخرج عن نغماته مهما خرج عنها فعليًا، أو ربما مستقبليًا نجعله يغني دون أن يذهب للاستوديو من الأصل.
الاستفاضة في شرح النظرية العلمية لن تكون بإثارة تطبيقاتها العملية، ولا توجد تطبيقات أكثر إثارة من “دورك جاي” لمغني التراب السكندري أحمد علي الشهير بـ “ويجز”.
المفارقة أن ويجز من مواليد سبتمبر 1998، السنة التي شهدت أول استخدام عالمي بارز للأوتوتيون في أغنية Believe للمطربة Cher، وقبل شهور قليلة من التطبيق المصري في أغنية “أنا” لـ عمرو دياب.
ويجز اكتسح التشارتات الغنائية في دول الشرق الأوسط في الربع الثاني من 2020. فعلها وهو صغير سنًا لدرجة لا تصدق، قد تجعله أصغر نجم غنائي في تاريخ الموسيقى المصرية، وهنا أقصد النجومية كحالة طاغية في الثقافة الجماهيرية وليس مجرد الشهرة أو التصنيف كـ “طفل معجزة” بما في المصطلح من نبرة تعاطف وتعالٍ.
ويجز الآن نجم حقيقي في صناعة الأغنية المصرية، أنظر لتجربته بإعجاب صادق، وأتمنى استمراريتها.
ذلك دون إغفال القاسم المشترك المسؤول عن تفشي “دورك جاي” وهو الموزع أحمد أشرف الشهير باسم “مولوتوف”، هذا المجتهد الذي لم يدرس الموسيقى أكاديميًا أو عرفيًا، لأنه كما وضحنا لم تعد صناعة الموسيقى بحاجة لخبير أو دارس؛ فالعملية تتم بسهولة عن طريق التجربة والخطأ، والبناء والهدم، وبالاستعانة بالتكنولوجيا التي وفرت الأدوات وسهلت استخدامها، ولم تستبقِ من دور الفنان أكثر من الرؤية ومخزون المشاعر والطاقة التعبيرية.
ومولوتوف يملك الثلاثة، بارع في بناء اللزمات الموسيقية وتوظيف أصوات الباص والأصوات المحيطية بطريقة السايكدليك.
يدعي مولوتوف أنه اخترع لونًا موسيقيًا جديدًا ويسميه على اسمه “MoloWave”. معجبوه بالآلاف، ويفضلونه بمعزل عن المغنيين الذين يتعاون معهم، وهم متحمسون جدًا لنرجسيته ونظرياته عن نفسه وعن الموسيقى، فهو من استبدل أصوات الـ hi-Hat والـ kick في إيقاعات الهيب هوب الأمريكية بأصوات الصاجات والطبول الشرقية. ليس هذا كافيًا ليجعله مؤسس نوع موسيقي جديد، لكن المؤكد أن توزيعاته تنتفض بطاقة ثورية مميزة عن أعمال أقرانه حتى في نفس التيار.
مولوتوف كان مسؤولًا عن انفجار موسيقي سابق بعنوان “الجميزة” بصوت “مروان بابلو”. وبابلو يصنف كأيقونة أو مؤسس روحي لهذا التيار الذي يضم أسماء مثل أبيوسف ومروان موسى.
يرى بابلو أن الفارق بين موجة الراب الأولى في مطلع الألفية وبين الموجة الجديدة التي يمثلها هو أنه – وزملائه – لا يريدون أن تظل أغانيهم داخل دوائر “سميعة” الراب الضيقة، يقول: “عاوز أبقى موجود في تراك ليست عادية، أغنية مهرجانات وأغنية لعمرو دياب وأغنية ليا”. طموح مشروع في الانتقال بموسيقى الراب إلى حالة “البوب”، نجح هذا التيار في بلوغه فعلًا، سواء بالجميزة أو بدورك جاي. قبل أن يعلن بابلو التوبة والاعتزال في ظروف كارتونية، ويخلي القمة لويجز.
بابلو حكى مرة عن هزة نفسية تعرض لها صغيرًا حين انتقل من مدرسة لغات خاصة، فصولها مشتركة بين البنين والبنات، إلى مدرسة ثانوية حكومية للبنين فقط، “الأولانيين شافوني سوّ، والتانيين شافوني فافي”.
يلمح بأن هذا التباين انعكس على التجربة الموسيقية له ولزملائه، فهم في نقطة وسط بين غوغائية مطربي المهرجانات وشياكة مطربي البوب والطرب، بقدر الجرأة اللفظية والغضب الذي تعتريه كلمات أغانيهم، تظل موسيقاهم تكشف عن تطور ومواكبة عالمية.
ومثلما لا تخلو أشعارهم من السباب والإهانات والصعلكة لا تخلو أيضًا من بعض الإحالات الثقافية، كالإلقاء باسم فيلم أو مسرحية عالمية أو أديب أو فيلسوف.
ليس مهمًا إن كانت تلك الإحالات تساق بصدق أو بادعاء، لأن الادعاء جزء من الشو الفني الذي يقدمونه، لذا ليس مهمًا أن كان ويجز قرأ لكافكا فعلًا وهو في السابعة عشرة من عمره، المهم أنه يقنعك بذلك بنبرة صوته المتحدية. إذا كان أقنعك بأنه “أول جمهورية منغير ما يتمرن”، فمن غير المستبعد أن يكون استوعب كافكا وهو في “اللفة”.
ويتميز هذا التيار بروح جماعية في توزيع الحق الأدبي، تظهر في الإشارة دائمًا لاسم الموزع الموسيقي بجانب اسم المغني، ومعظمهم لا يشير للأعمال التي يقدمونها بعبارة “أغنية” بل بعبارة “تراك”.
وهي تفاصيل بسيطة، لكنها تدل على تقديرهم البالغ للدور الإنتاجي في صناعة الموسيقى، وأن الكلمات أو أداء المغني وحدهم لا يصنعون تراك ناجح، أو تراك من الأصل.
تلك التفاصيل تكشف كذلك أن الحالة التعبيرية هي السيد في تصنيف موسيقى هذا التيار، معظمهم يرفض تصنيف “تراب”، والبعض الآخر يرى أن ما يقدمونه تجاوز مفهوم الراب، فموسيقى أغانيهم أكثر من مجرد إيقاع ولزمة متكررة على كلام مقفى، بل تحتوي على خطوط وطبقات عديدة.
المعاني والرسائل في أغانيهم ليست بالأمر الأهم، لدرجة أنهم لا يدققون في نطق الكلمات ومخارج الألفاظ، إما بدافع الانفعال مع الموسيقى والحالة الذهنية، أو بشكل متعمد لإضفاء إثارة وهالة مصطنعة على محتوى أغانيهم تدفع بالمستمع للبحث عن النسخ المكتوبة من كلمات أغانيهم، وأحيانًا لتفسير هذه الكلمات.
ويجز داخل الأستوديو لا يريد الأمور كلها أن تسير بشكل مثالي، يرى أن ما يجعل الموسيقى حقيقية هو الأخطاء، نغمة ليست في محلها، أو صوت عشوائي، أو إيقاع غير منضبط، أو كلمة مبتورة النطق، أو صوت غير مرغوب فيه. يقول ويجز تلك العبارات بعفوية في أحد حواراته، وربما لا يعرف أنها تعبر عن تيار فلسفي في الموسيقى العالمية بدأ في التسعينات بمسمى “الالتزام المنخفض” (LO-Fi)، ويعني توظيف الأخطاء كعنصر جمالي في الموسيقى.
وهو مفهوم نشأ كرد فعل على تحول الموسيقى من عصر التسجيل الحي إلى عصر التوليف الآلي بدعوى أن المثالية تنال من دهشة المستمع.
تبقى الإشارة لعامل مهم فيما يخص الأوتوتيون، فهو مثلما يستخدم بغرض التصحيح يستخدم كذلك بغرض التشويه (distortion) فهو يكسر طبيعية الموسيقى، لكنه تشويه برؤية جمالية، هو نفس المنطق الذي جعل محسن جابر يطلب من طارق مدكور تصحيح خطأ ليس بخطأ منذ 21 عاما. وبين التصحيح والتشويه يكمن التوظيف الأعمق للأوتوتيون في أغاني تيار “التراب”.
في مطلع هذا العام حدث جدل كبير بسبب استبعاد متسابقة مصرية من برنامج The Voice Kid، برغم براعتها في غناء “الأطلال” لأم كلثوم لم تنل الأصوات. وتحول التعاطف مع هذه المتسابقة لتريند ضخم، وأثار كالعادة النعرات القومية وادعاء المظلومية، لكنه خفت بعد أيام ولم ولن يسمع به أحد، النسيان هو المصير الذي لا يفرق بين من خسروا ومن فازوا بلقب هذا البرنامج أو البرامج المشابهة.
ولا يمكن ختام مقال كهذا دون عقد مقارنة تفرض نفسها بالأساس، فنجاح تجارب ويجز ومولوتوف ورفاقهم، خير كاشف عن سراب فكرة برامج المواهب، خاصة في عصرنا. فلا نجومية تبدأ بالتنازل عن عزة النفس، لا نجومية باستجداء التأييد، لا نجومية قائمة على التقليد، لا نجومية تنتظر أحكام الآخرين بارتعاش وعرق ودموع. والأهم أن الموسيقى لم تعد بحاجة لصوت آخر جميل بل بحاجة للمبتكرين، الموسيقى لا تلتفت لمن وقعوا تحت رحمة شركات الإنتاج ولجان التحكيم والنمط السائد وزمن الفن الجميل، بل لمن انتزعوا حقهم في التعبير عن أنفسهم عنوة، ولمن قدموا تجربتهم الشخصية بأصالة، حتى لو كانت هذه التجربة ببساطة ثقافة النواصي وخناقات المراهقين في ضواحي الإسكندرية الفقيرة.