هذه الرؤية التي تسحب الصراع القديم داخل فرنسا من أرضيته الثقافية؛ أي الاختلاف الثقافي والديني، نحو أرضيته السياسية، هي أبرز ما قدمه ماكرون.. التأكيد على القيم الدستورية وشعارات الجمهورية كضمانة للحرية والمساواة على أرضها يعني أن كل من يدفع بالدعايات العنصرية، سواء من اليمين المتطرف الذي لقّبه الرئيس بـ “أعداء الجمهورية”، أو من الإسلاميين المتطرفين الذين ينحون على حد قوله نحو “انفصالية إسلامية”، كلاهما ينصب للمجتمع فخًا، كلاهما يكرس الانقسام داخله ويهدد وحدته.
الدبلوماسية الماكرونية.. هل تسود فرنسا أوروبا من بوابة إيران؟ | س/ج في دقائق
ببساطة ماكرون يتحدث عن مشروع الإسلام السياسي، الذي نعرفه جميعًا ونعيش صراعاتنا معه في بلادنا ذات الأغلبية المسلمة. المشروع الذي تسبب في قتل أعداد هائلة من المسلمين في بلادهم. أعداد لا تقارن بضحايا الهجمات الإرهابية في الغرب. المشروع الذي يشعل الحروب الطائفية والاضطهاد الديني في جميع الدول الناطقة بالعربية إلا قليلًا:
ماكرون هنا يرسم الخريطة التي تتسع لمشروع جيوسياسي إسلامي قامت على دعمه أفكار ومناهج وأدبيات وكذلك سياسات محلية ودولية استدعت المكوّن الجهادي الراديكالي. لا ينفي إذن طبيعة التحول التي مسّت البلاد ذات الأغلبيات المسلمة، مثل تونس التي اختلف الوضع فيها عن ثلاثين سنة مضت، ومثل إحياء مشروعات الخلافة التوسعية خارج الحدود الوطنية. ويرى الأزمة داخل فرنسا غير منفصلة عن هذا التحول وانتشاره في العالم كله. يشير إلى التأثيرات الخارجية والمنظمات الممولة من الخارج والتي:
يضيف الرئيس بعض الإضاءات على الكيفية التي يعمل بها هذا المشروع على تقوية تلك النزعة الانفصالية داخل فرنسا. يذكر رقم خمسين ألف طالب يدرسون خارج المدارس داخل مراكز أنشأت بأموال الدعم الرسمي لأغراض ثقافية أو اجتماعية أو رياضية، لكنها تتحول لمراكز إعداد وتأهيل تزرع الأفكار المتطرفة. يذكر عدد من انضموا إلى داعش من الفرنسيين، وعدد المتسربين من التعليم الرسمي لأن أهلهم يرفضون مشاركتهم في أنشطة مثل السباحة أو حصص التاريخ. يذكر تجمعات سكانية تركت لتستقل بذاتها وتعيش في مناطق محرومة ثقافيًا وماديًا وتعليميًا من خدمات الدولة لتملأ جماعات إسلامية منظمة هذا الفراغ:
بصفتي مصرية، لم أقرأ هذا المقطع إلا كأنه سرد لما حدث في مصر عبر الأربعين سنة الماضية. رأيت تقسيم العمل الذي ترك لجماعة الإخوان والجماعات السلفية في مصر تولي شؤون المجتمع مقابل الابتعاد (المؤقت) عن شؤون الحكم. عشت توغلها في الجامعة والمدرسة ومعامل التحاليل الطبية ومراكز الكومبيوتر والجوامع والزوايا وتغسيل الموتى والنقابات المهنية والمستوصفات والجمعيات الخيرية ومؤسسات توزيع الزكاة في الريف وفي المدينة.
رأيت كيف يمكن إعادة تشكيل البنية المجتمعية لغويًا وفكريًا وسلوكيًا بالتأثير في كل نقطة مفصلية في الحياة اليومية. بدعم خطاب موازٍ يناقض كل معاني الحداثة ويفكك أطروحاتها بهدف نفيها وزرع الكراهية نحوها وتصويرها كعدو للدين وفساد للعقيدة.
رأيت كيف تبني الجسد السياسي بتجميع أجزائه الاجتماعية بدأب وتواصل. ليكتشف رويدا مدى قوته وتوغله وتأثير منطقه المضاد فينشط بعدها سياسيًا.
رأيت الدولة التي تتغاضى عن مراقبة التمويلات وتتبع الأفكار المتطرفة في الإعلام والقنوات الفضائية وشركات الإنتاج الفني والدرامي، وتقمع الأفكار والتيارات المضادة لها، وتغض الطرف عن التوسع الاقتصادي والاجتماعي في كل ركن داخلها، مقابل ملء فراغ انسحابها، وتبرعها لمشروع الإسلام السياسي بموقع البديل.
مكر، يمكر، ماكرون. كيف خدع رئيس فرنسا الجمهور وألبسه البرنيطة | رواية صحفية في دقائق
لكن ماكرون يمضي نحو أبعد من ذلك في مقاربته لخصوصية الأزمة الفرنسية.. الماضي الاستعماري:
هنا ربما تظهر فضيلة الحضارة الكبرى: القدرة على النقد الذاتي. مراجعة التجارب والتعلّم والانتقال.
سبق هذا الخطاب ثلاث سنوات من العمل البحثي والقانوني والإداري. تجارب على الكيفية السليمة لعزل هذه البؤر الراديكالية بعيدا عن وصم الأغلبية المسلمة “كاملة ومكتملة المواطنة” كما وصفها ماكرون.
إعداد مشروع يظهر في ديسمبر لتعديلات في قانون المؤسسات التي تتلقى دعما رسميًا من الدولة.
إحصاءات سنوية عن العنصرية ومعاداة السامية وكراهية الأجانب تبرز نسب الحوادث المتعلقة بها وفي أي المواقع وبأي صورة.
تتبع لمصادر التمويل والرؤوس المحركة والمركزية. إعداد مقترحات لدعم تعليم اللغة العربية في المدارس عبر آدابها وثقافتها المتنوعة، وفتح فصول الدراسات المختلفة عن الثقافة الإسلامية والعربية بتعدديتها. تكليف بإعداد الأئمة عبر منهج تنويري جديد تقوم على إعداده المؤسسات الإسلامية في فرنسا للتوقف عن الاستعانة بالأئمة من الخارج.
الرؤية تنبع من هذا المنهج المعقّد الذي تبناه ماكرون كشعار بسيط دال لحملته الانتخابية: في نفس الوقت. المقصود منه رفض التصنيفات الاختزالية للأفكار كأنها متضادة: العالمانية أو الإسلام، اليمين أو اليسار، أسباب خارجية أو أسباب داخلية، الحل أمني أو الحل سياسي اجتماعي، ليبرالية اقتصادية أو دولة رفاه اجتماعي، أزمة المهاجرين أو أزمة الاندماج.
السياسي الذي يجمع بين حب للفلسفة وخبرة بالاقتصاد ينظر دائمًا لإمكانية الجمع بين الرؤى المتضادة، واختيار أنجع الطرق من بين ما تقترحه، وتكوين البديل المناسب للحظة الزمنية واحتياجات المجتمع والبلد.
لذلك فقد نظر في عيون الحاضرين في ختام خطابه قائلًا: “آمل أن أكون قد خيّبت آمال من انتظروا حلولًا وتفسيرات كاريكاتورية سهلة وسخيفة”.