تبلغ الكائنات العاقلة في أي كوكب سن الرشد عندما تنجح في اكتشاف علة وجودها. وإذا حدث أن زارت كائنات فضائية ما كوكب الأرض، فإن أول ما يتبادر إليها في سياق تقويمها مستوى حضارتنا، هو السؤال إن كان سكان الأرض قد اكتشفوا نظرية التطور.
الكائنات الحية وجدت على الأرض من دون أن تعرف علة وجودها، وظل هذا الأمر عصيا على إدراكها طوال أكثر من ثلاثة آلاف مليون عام، إلى أن تجلت الحقيقة أخيرا أمام عيني أحد هذه الكائنات، واسمه تشارلز داروين.
إن الزلزلة الداروينية في الفلسفة – وهي ظاهرة لم تحظ بتغطية كافية – لم تدع مجالا للحلول الوسط: إما أن تنأى بنفسك عن نظرية التطور بأسرها وتتشبث بالمنظور الأرسطي عن «المحرك الأول» أو الديني عن «الخالق القدير».
أو أن تقلب الكون التقليدي رأسا على عقب، وتقبل بأن العقل والمعنى والهدف هي «النتائج» الحديثة نسبيا للطاحونة الميكانيكية القوية للخوارزميات الداروينية عديمة العقل، وليست «مسبباتها».
اقرأ أيضا: متى ننصت لصوت العقل؟
فالتصميم ينشأ في الأصل من عمليات تصاعدية، وجميع العمليات التنازلية من البحث والتطوير التي نعرفها جيدا (التأليف والاستكشاف البشري، الاختراع، حل المشكلات، والخلق)، هي نفسها الثمار المتطورة لتلك العمليات التصاعدية على عدة مستويات ونطاقات.
وجميع المحاولات لتبني موقف وسط، وإفساح استثناءات لفكر قريب من القلب أو غيره، عبر تعليقه على خيط وهمي يتدلى من السماء، مصيرها التضارب.
ومع اتضاح صورة الانتقاء الطبيعي بكل تفاصيلها، بات من الممكن أن نفرق بدقة بين العمليات التي تملك وعيا وقصدا، وتلك التي تتصرف وكأنها كذلك.
يقول ستيفن جاي غولد، واصفا سبب الإغواء الواضح لوهم الخلط بينهما:
حيث إن العالم الحي نتاج للتطور، فلم لا نفترض أنه ظهر بأبسط شكل وأشده مباشرة؟ لم لا نفترض أن الأحياء تحسّن من نفسها بجهودها الخاصة وتمرر تلك التحسينات إلى ذريتها على شكل جينات معدلة – وهي عملية كانت قد سميت منذ أمد بعيد، بتعبير تقني، «بتوارث الصفات المكتسبة».
وهذه الفكرة تستهوي الحس العام لا لبساطتها فقط، بل ولادعائها المتفائل أن التطور يسلك طريقا تقدميا بطبعه، يحركه العمل الشاق للكائنات بذاتها.
إن الولع برؤية القصد الواعي كثيرا ما يبلغ من القوة حد تطبيقه لا على الفقريات غير البشرية فحسب (التي قد يكون لها وعي فعلا، ولو دون معرفة بالجينات واللياقة الداروينية أكيدا)، بل وعلى النباتات والأحياء وحيدة الخلية.
ولهذا فقد توصف التكيفات في أي تصنيف بأنها «ابداعات»، «اختراعات» أو «حلول» (بل وحتى حلولا «بارعة»). وحتى تطور مقاومة المضادات الحيوية يعد عملية استطاعت بها البكتيريا «تعلم» كيف «تتغلب» على المضادات بشكل محبط في انتظامه.
إن التشبيه الذي يلازمه تأكيد على القصد هو ما يدعم الوهم الشائع من أن على الكائنات أن تتصرف كي تزيد من الرفاهية طويلة الأمد لنوعها. ومن جديد، فإن تأمل الآليات الفعلية للانتقاء الطبيعي سيكشف عن وجه المغالطة في ذلك.
فالرؤية الدارونية للجين ترينا أنه يمكن أن يكون “أنانيا” دون أن نضطر لأن ننسب إليه “وعيا” أو “صفة” أو أية سمة عقلية مريبة أخرى. يقول ريتشارد دوكينز:
“من المهم أن ندرك أن التعريفات السابقة للإيثار العقلانية تعريفات “سلوكية” وليست ذاتية، فأنا لا أهتم هنا بسيكولوجيا الدوافع.”
لقد كان تطبيق دوكينز العبقري للمذهب السلوكي العقلاني، أي ما سمي “بالموقف العمدي”، على علم الأحياء التطوري بمنزلة تحدٍّ للمنظور الفلسفي الكلاسيكي عن القصدية.
فأحد الدروس الأساسية المستفادة من التفكير دارونياً هي ضرورة التخلي عن الفلسفة الجوهرية؛ “فجوهر الحياة” الخيالي يجب أن ينظر إليه كسلسلة متخيلة من عوامل بسيطة أو وسائل تمتد من الكائنات غير الحية إلى الحية، ولن يرسم الخط الفاصل بينهما إلا قرار يحسم التعريف.
نعم، لدينا روح، لكنها مصنوعة من أعداد وفيرة من الآلات المتناهية في الصغر، صممها “صانع ساعات أعمى“.
إن هذا التضارب اللفظي ليس عادة بلاغية، بل هجوم هادف على الفرضية المتسالم عليها في فلسفة ما قبل داروين، القائلة بأن كل “تصميم” يجب أن يأتي نتاج “عقل” خارق يفوقه عظمة، بدل أن ينبع من آليات ليس لديها عقل أو دوافع.