قبل أكثر من ربع قرن، نشطت عصابة قوامها بريطانيون من أصول آسيوية، تمركزوا في لندن، وباكينغهامشير، وبرمنغهام وشمال غرب إنجلترا، واسكتلندا، تمكنت من تدبير تمويل ضخم لتنظيم القاعدة.. من أموال دافعي الضرائب البريطانيين.
العصابة ضمت عددًا محدودًا من العائلات (تغطي عدة أجيال)، وارتكبت هجمات خطيرة ومنظمة ومستمرة ضد الوكالات الحكومية البريطانية ذات الأنظمة الضعيفة.
الجرائم كانت معقدة ومتنوعة؛ شملت التلاعب بقوانين ضريبة القيمة المضافة، والحصول على تعويضات عن حوادث وهمية، والاحتيال فيما يخص بطاقات الائتمان والرهن العقاري التي تستهدف البنوك والأفراد.
التفاصيل كشفها تحقيق مطول أجرته “صنداي تايمز” على مدى عامين، سنبسط لكم هذا التحقيق المطول بطريقتين.
أولا: نضعكم في الصورة من خلال
شوهد أبو حمزة المصري يجند شبابًا في نهاية التسعينيات للعمل مع ما تكشف لاحقًا أنه جزء من العصابة، قبل أعوام من بزوغ نجمه كأحد أبرز القائمين على عمليات التجنيد لحساب تنظيم القاعدة.
دور المجندين كان الالتحاق للعمل بمصانع لديها عمالة زائدة، ثم مطالبة الحكومة بإعفاءات ضريبية وإعانات سكنية، أو تعويضات عن حوادث سيارات وهمية.
الثغرات القانونية سمحت للعصابة بتنفيذ عمليات احتيال دائري (استيراد سلع وتناقلها من بائع إلى آخر، ثم إعادة تصديرها، واسترداد ضريبة القيمة المضافة من الحكومة). هذه العملية وحدها مكنت العصابة من الاستيلاء على أكثر من مليار جنيه إسترليني في منطقة رمز بريدي واحد في صورة خصومات ضريبية غير مبررة.
العصابة أسست محافظ عقارية في المملكة المتحدة، واشترت سيارات فيراري ومرسيدس ورينج روفر بلوحات أرقام شخصية على حساب دافعي الضرائب.
أحد أعضاء العصابة الذين أمكن التعرف عليهم كان مجرد محاسب متواضع في مجلس مقاطعة بيرنلي، لكنه لعب دورًا مهمًا في تغطية عمليات الاحتيال الضخمة ضد الخزانة العامة.
تشير الملفات إلى أنه غادر لانكشر إلى أفغانستان في أواخر التسعينيات للقتال مع طالبان، وقتل في قصف مدفعي على مسجد قرب كابول.
اتضح أنه غادر إلى أفغانستان بعد فترة قصيرة من سماعه أبو حمزة يلقي محاضرة في مسجد في بيرنلي.
مجموع حصيلة عمليات العصابة بلغت نحو ثمانية مليارات جنيه إسترليني سرقتها العصابة من أموال دافعي الضرائب البريطانيين.
العصابة أرسلت 1% من مكاسبها إلى تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن في باكستان وأفغانستان، ليبلغ نصيب التنظيم 80 مليون جنيه إسترليني.
تنظيم القاعدة استخدم الأموال في تمويل المدارس ومعسكرات التدريب والأنشطة الإرهابية الأخرى.
تحقيق “صنداي تايمز”، المستند على آلاف من ملفات الاستخبارات ورسائل البريد الإلكتروني ووثائق المحكمة ومقابلات مع مسؤولي الأمن الذين اطلعوا على التفاصيل، يثبت أن بريطانيا كانت قادرة على تأمين نفسها من تفجيرات لندن 2005. الاحتمال كان قائمًا كذلك بشأن منع وقوع هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 في الولايات المتحدة، وربما حماية العالم كله من مد إرهابي استمر لسنوات طويلة تالية.
يصل التحقيق ضمنًا إلى أن التزام بعض الوكالات الحرفي بتطبيق القانون، دون استبعاد شبهات فساد محتملة سمحت بشن تنظيم القاعدة لكل تلك الأعمال الإرهابية، وحصنت زعيم التنظيم أسامة بن لادن لسنوات.. كل ذلك من جيوب دافعي الضرائب البريطانيين.
الآن نقدم لكم تفاصيل أكثر وأشمل عن ما جاء في التحقيق
ثانيا: ماذا عرفنا بالتفصيل
تقارير الشرطة السرية تكشف أن المصدر “المرعوب للغاية” أخبر ضباط الفرع الخاص وهيئة الإيرادات والجمارك الملكية (الضرائب) HMRC في 1995 عن عصابة متورطة في عمليات احتيال في الرهن العقاري بمساعدة عملاء مصرفين فاسدين ووسطاء عقاريين.
“عملاء آسيويون كانوا يأتون بأكياس مليئة بالنقود بشكل منتظم”، هذا ما قاله المخبر، الذي زعم أن الأموال وضعت في حسابات مصرفية بأسماء مزيفة، قبل أن يحولها محامٍ آسيوي إلى خارج البلاد لاستغلالها في تمويل الإرهاب أو تجارة المخدرات.
خلص التحقيق إلى أن العصابة استخدمت شبكة من المصانع والشركات، واستغلت عمالها في عمليات احتيال متعلقة بتزييف الهويات، وبيع البضائع المقلدة، وتدبير حوادث سيارات وهمية للحصول على مقابل تأميني، والرهن العقاري وبطاقات الائتمان.
تحقيقات HMRC كشفت أيضًا أن العصابة استخدمت أرقامًا تأمينية مسروقة أو معدلة لإنشاء سجلات مزيفة، واستغلت عمالًا من المهاجرين غير الشرعيين، قبل غسل الأموال عبر شركات وهمية خارج الحدود.
معلومات أخرى عن تورط محاسب من بيرنلي كشفها جهاز كمبيوتر محمول عثر عليه ضباط من المخابرات المركزية الأمريكية وMI6 البريطانية أثناء بحثهم عن أسامة بن لادن بعد هجوم 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
في الأشهر التي تلت 11 سبتمبر/ أيلول 2001، لاحق ضباط المخابرات المركزية الأمريكية وMI6 أسامة بن لادن في سلسلة جبال بين أفغانستان وباكستان. وسيلة التتبع كانت أجهزة كمبيوتر محمولة تركها بن لادن ومرافقوه في عجلة من أمرهم أثناء المطاردات.
وبتحليل محتوى الأقراص الصلبة، توصل المحققون لمصدر التمويل الذي ساعد تنظيم القاعدة على شن هجوم إرهابي بهذه الخطورة من كهف جبلي. وكان مدهشًا أن مصدرًا رئيسيًا للتمويل كان محاسب بيرنلي، الذي كان في الواقع جزءًا من عمليات الاحتيال الضخمة ضد الخزانة العامة البريطانية.
تحقيقات سرية أجرتها MI5 كشفت أن بعض الأموال وصلت إلى المجمع الباكستاني الذي كان يسكنه العقل المدبر لتنظيم القاعدة أسامة بن لادن قبل أن تقتحمه القوات الأمريكية في عام 2011.
ويضيف التقرير أن الأموال أرسلت بشكل أساسي إلى باكستان، لكن أيضًا عبر “مناطق تجارة حرة” مثل هونج كونج ودبي، ومن المرجح أن تكون مرتبطة بالإرهاب.
تحقيق صنداي تايمز يكشف أن HMRC نجحت في 2003 – أي قبل عامين على الأقل من حدوث التفجيرات – في تحديد صلات العصابة بالإرهابي شهزاد تنوير، أحد المتورطين في تفجيرات لندن 2005 لكن مسؤولين كبارًا في HMRC رفضوا حينها نقل المعلومات الاستخباراتية إلى MI5، أو حتى كشف العصابة وتقديم المتهمين للعدالة. وذلك لالتزامات قانونية.
أحد الضباط أخبر الصحيفة أنه مُنع مرارًا وتكرارًا من تبادل المعلومات الاستخباراتية مع MI5؛ لأن HMRC أرادت الحفاظ على سرية السجلات الضريبية الخاصة بالإرهابيين المشتبه بهم.
وعندما وقعت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 ، حذر أحد مسؤولي HMRC رؤسائه بأن لديه “معلومات أساسية” من شأنها أن تكون ذات أهمية كبيرة لـ MI5.
الملفات الداخلية التي اطلعت عليها صنداي تايمز تظهر أن الضابط أخبر رؤساءه بأنه جاهز لمقابلة لتقديم “جبال من المعلومات المتاحة” لجهاز الاستخبارات التي “اكتسبت أهمية جديدة تمامًا” بعد الهجمات.
يقول الضابط إن زملاءه في HMRC وإدارتهم المباشرة كانوا محبطين بشكل متزايد من عدم اتخاذ أي إجراء.
مصدر مطلع قال إن الرؤية الأوسع للمشهد غابت عن HMRC. “بعد الحادي عشر من سبتمبر، لم يحدث أي تبادل للمعلومات مع MI5 وMI6 رغم أهميتها. تجاوزوا هذا بالقواعد التي تعتبر ملفات الضرائب مقدسة”.
بعد التفجيرات، أمر رؤساء HMRC أخيرًا فريق التحقيق بإعداد تقرير حول المعلومات الاستخبارية التي بحوزتهم، والتي قد “تساعد أجهزة الأمن فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب”.
كشفت معلومات MI5 بأن الوجهة النهائية لبعض الأموال كانت مجمع أسامة بن لادن في أبوت آباد، حيث أمضى زعيم تنظيم القاعدة سنواته الخمس الأخيرة في تجنب المخابرات الغربية في منزل آمن يبعد أقل من ميل واحد عن أكاديمية عسكرية باكستانية و150 ميلاً عن الحدود الأفغانية، قبل أن يعثر عليه فريق من قوات البحرية الأمريكية في مايو/ أيار 2011.
يتساءل بعض محققي HMRC عما إذا كان للفساد دور في قرار قيادة الهيئة بإخفاء المعلومات عن المخابرات، خصوصًا مع تسلل العصابة إلى وكالات حكومية للحصول على “معلومات حساسة” عن عمليات الاحتيال التي قامت بها.
“من شركة واحدة فقط، سلطنا الضوء على نحو 20 حالة احتيال داخلي محتملة تورط بها أعضاء من العصابات في وكالات حكومية”، كما يوضح ملخص للمخابرات.
“لدينا أيضًا اثنان من المشتبه بهم في مكتب البريد يبدو أنهما يساعدان في سرقة المستندات المستخدمة في إنشاء هويات مزيفة. التسلل كان واسع الانتشار”.
وتركز الاهتمام أيضًا على آلاف الجنيهات التي قدمها أفراد العصابة كتبرعات لحزب العمل، الذي كان الحزب الحاكم في ذلك الوقت.
وكشف تقرير داخلي لـ HMRC: “العامل الأكثر إثارة للقلق هو استخدام السياسة لخلق جو من الشرعية”.
تظهر الملفات أيضًا أن العصابة تتمتع بصلات مع أحد كبار السياسيين في باكستان.
ومع بداية المحاكمة الأولى، فُرضت قيود على كشف هوية أفراد العصابة علنًا؛ لأن عديدين من زعماء العصابة فروا من بريطانيا قبل القبض عليهم، ويُعتقد أنهم يعيشون حاليًا في الشرق الأوسط.
وتعتقد النيابة العامة في بريطانيا “CPS” أن قيود النشر يجب أن تستمر لحين إعادة العقول المدبرة للمحاكمة في المملكة المتحدة.
مصدر في CPS يعتقد أن أوامر تقييد النشر ظلت سارية لأسباب تتعلق بـ “الأمن القومي”.
متحدث الهيئة قال: “في الفترة بين 2017 و2018 وحدها، جمعنا وحمينا أكثر من 3.3 مليار جنيه إسترليني من خلال عملنا لمكافحة الجريمة المنظمة، وجلبنا أكثر من 880 مجرمًا منظمًا للعدالة منذ عام 2010”.
لكن ميغ هيلير، مديرة لجنة الحسابات العامة، تقول إنها ستدرس إطلاق تحقيق برلماني يشمل استجواب مستشار الأمن القومي البريطاني مارك سيدويل بهذا الشأن.
تضيف هيلير إن سرية دافعي الضرائب مهمة، لكن عندما يتهرب الأفراد من الضرائب سعيًا وراء إلحاق الأذى، يجب إخبار الوكالات المعنية.
تؤكد أيضًا أن HMRC تشارك المعلومات مع الوكالات الأخرى بشكل روتيني، وتعتبر أن تجاهل ذلك في حالة الشبكة يبدو أمرًا غير اعتيادي.
إنفوجرافيك تفاعلي | كيف تعامل الولايات المتحدة وأوروبا العائدين من داعش دولة الخلافة؟| دقائق.نت
بريطانيا تحظر حزب الله بالكامل.. لماذا الآن؟ وماذا بعد؟ | س/ج في دقائق